للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الكريمة رفعهم وبهذا المنهج التقطهم من سفح الجاهلية المتدني ومستنقعاتها الآسنة «١» ، وارتقى بهم برفق إلى قمم لا يعرفها أحد، وما عرفها إلا بهذا الدين. وحتى لو عرفها ليس من السهل- أو بالأحرى لا يكون ممكنا بحال أبدا- ارتقاؤها والوقوف عندها، في كل صيغ الحياة وميادينها ومعتركاتها.

تجدهم في الأمور كلها على ذلك المستوى العجيب في البذل والعطاء والإقدام والعفة والوفاء والكرم والصبر والاحتمال والجهاد والفداء، جنديا كان أو قائدا حاكما أو محكوما تابعا أو متبوعا، بل حتى مذنبا ومعاقبا ومحروما. فانظر إلى قضية المثنى بن حارثة الشيباني (١٤ هـ) وخالد بن الوليد (٢١ هـ) وأبو عبيدة بن الجراح (١٨ هـ) وعديّ بن النّعمان «٢» ، ثم انظر إلى تلك الغامدية وماعز وأبي محجن والبكائين ومواقفهم.

حتى حين كان يرتكب المسلم إثما- قياسا إلى إيمانه- فذلك إنما يقوده لخير، ويثمر لديه ارتقاء جديدا، كما في قصة أبي لبابة وما أدركه واعتبره ذنبا «٣» .

والإثم نفسه كان يوزن- لديهم- بمقدار الإيمان، وقد يكون في الآخرين، حتى لا يوصف بأنه ذنب، كالذين تخلفوا في غزوة تبوك «٤» ، انظر مواقفهم وهي في حالة الضعف المردي المتردي. ليس هذا كأفراد لكن (أركز) كمجتمع. والأمجاد التي تواجهها لا تحسبها أفرادا- وهي كذلك تكوّن المجتمع- ولكن (اركز) المجتمع. لا يأخذه النصر ولا تقعده الهزيمة والشدة. والأمر تساوى وروافده له في أول الدعوة، وهي مطاردة أو يوم انتصرت وحققت.

ففي مكة مرت سنوات كان كل من يأتي إلى الدعوة الإسلامية يوضع


(١) انظر: التفسير، (٢/ ٤٤- ٨٤٥) وبعدها، (٣/ ١٥٤٨) .
(٢) عنه انظر: أعلاه، ١٧٠.
(٣) السيرة النبوية، أبو شهبة، (٢/ ٤٠٧- ٤٠٨) .
(٤) السيرة النبوية، أبو شهبة، (٢/ ٥١١- ٥١٨) .

<<  <   >  >>