للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كليهما، وكذلك الأمر في أمزجة التاريخ.

وأنت خبير بأن الرجال في تاريخ الآداب الأوروبية هم قطعه التي يتألف منها؛ لأنهم متصرفون في اللغة كأنها إنما توضع لعهدهم أوضاعًا جديدة، فكل رجل منهم في طريقته ومذهب فن علم "؟ "، أو هو على الحقيقة قطعة متميزة في تركيب التاريخ العقلي؛ ولكن الرجال عندنا في قياسهم بأولئك ينزلون منزلة التشبيهات من المعاني الأصلية؛ إلا ما ندر، ولا حكم للنادر؛ وذلك لأن في لغتنا معنى دينيا سرها وحقيقتها، فلا تجد من رجل روى أو صنف أو أملى في فن من فنون الآداب أول عهدهم بذلك، إلا خدمة للقرآن الكريم؛ ثم استقلت الفنون بعد ذلك وبقي أثر هذا المعنى في فواتح الكتب؛ والقرآن نفسه حادثة أدبية من المعجزات الحقيقية التي لا شبهة فيها، وإن لم يفهم سر ذلك "من لا يفهمونه".

أفيصلح بعد هذا أن يكون تاريخ الأدب العربي مبنيا على غير حوادثه التي كونته وتعلق بأكثرها رجاله دون أن تتعلق بهم، كما هو الشأن في سواه؟

على أن المستشرقين فيما أرى لم يختاروا ذلك الوضع إلا لمكان العجمة منهم، إذ لا سليقة لهم في العربية وآدابها، وإن كان منهم رءوس في بعض فنون التاريخ العربي، ثم لأنهم يتعجلون الفائدة كيف أصابوها، فأيا ما يضعوا من ذلك فلهم به فضل؛ ثم هم يكتبون لأنفسهم ولأقوامهم، فلا يبالون بما تفتق عليهم هذه الطريقة التي يستمرون عليها. ولكن ما بال أدبائنا "أصلحهم الله" قد أضلوا الحجة وجهلوا بموضع الشبهة، فتابعوا على غير نظر وكانوا جميعًا في ذلك كإن وأخواتها فيما يعمل وما يكف؟ وما بالهم وهم بقية العرب وأهل اللسان وحفظة الكتاب، لا يأنفون أن يعدوا من "أدبيات اللغة" تاريخ علم الفلك مثلًا، وإن كانت روائع الألفاظ تشبه بالنجوم، ولا أن يقرنوا علم الصرف بعلم الكيمياء. وإن كان لكل منهما "وزن" معلوم١.

إن صنيع أولئك "المستشرقين" وهؤلاء "المستغربين" لا يعتبر في حقيقة التأليف إلا توسعًا من ضيق, وتوفيرًا من فلة، وإغراقًا في الحشد والاجتلاب؛ والفرق بعيد بين علم يورد منه المؤلف إشباعًا لكتاب، وبين كتاب يفرده إشباعًا للعلم نفسه؛ ولهذا بقي تاريخ آداب العرب محتاجًا إلى طريقة أخرى، لا يختصر فيها الزمن بسرعة النقل، ولا يرفه على الفكر بهذا "الاضطراب الرياضي" في وثوبه بين الكتب، ولا يستر فيها قبح التأليف بحسن التقسيم، ولا يقوى ضعف المعنى بما يكون من العناية، ولا تنفق الفصول الهزيلة سمنًا بما تلبس من الأوراق الكثيرة!

ولم تسقط دولة العقول في هذه الأمة إلا منذ ابتدأ العلماء يعتبرون العلم فهم العلم كما هو؛ فتهافتوا على ذلك باختصار الكتب وشرحها وتفتيقها بالحواشي والتعاليق "الهوامش"، وتلخيص


١ كان العرب في صدر الإسلام يسمون ما عرف يومئذ من العلوم -كالنحو والفرائض- بعلوم الموالي، ويأنفون منها لأنها غميزة في سلائقهم، ثم لما استبحر العلم بعد شباب الدولة العباسية كان العلماء يفرقون بين "أنواع العلوم وأصناف الآداب" كما يؤخذ من طبقات الأدباء لابن الأنباري، وكل ذلك لأن المذاهب العلمية "اختصاص لا اختصار".

<<  <  ج: ص:  >  >>