ليس شعر الجاهلية مطلق الكلام الموزون، ولكنه مع وزنه ينبغي أن يكون ممتازًا في تركيبه وتأليف ألفاظه، فإذا عارضته بالمنثور من كلامهم رجح برونق العبارة والاختصار في الدلالة واستجماع الغرض من الكلام، حتى يصح أن يقال فيه إنه إحساس ناطق. وهذه الأمة من أمم الفطرة، فليس لديها من أسباب التعلم والأخذ عن الأمم الأخرى شيء، فلا بد أن يكون شعرها كمالًا في اللغة، فلم ينطقوا به حتى هذبت وصفيت وصارت إلى المطاوعة في تصوير الإحساس وتأديته على وجهه الأتم؛ وهذا شأن لا يكون في لغة من اللغات إلا بعد أن تستقل طريقة تصريفها واشتقاقها ثم يتناولها التنقيح، ثم يجمع عليها في الاستعمال؛ وقد جرت على ذلك لغة العرب العدنانية؛ فإنها انفصلت عن اللغة السامية التي تفرعت منها، ثم استقلت طريقتها بالوضع والارتجال، ثم أخذوا في تهذيبها وتصفيتها حتى خرجت منها لغة مضر؛ ومن هذه اللغة خرج الشعر، ولا يتجاوز ذلك مائتي سنة قبل الهجرة على التحقيق.
اعتبر ذلك بما قاله أبو عبيدة من أن العرب لا تروي شعر أبي دؤاد وعدي بن زيد؛ لأن ألفاظهما ليست بنجدية، فلا بد أن يكون أساس الشعر عندهم على صميم العربية من لسان مضر، وما عدا ذلك فهو مما تبعث عليه فطرة صاحبه، ولكن العرب لا يبالون به ولا يرونه، وعلى هذا مشى المتأخرون في الاحتجاج بالشعر العربي، فالعلماء لا يرون شعر عدي بن زيد حجة "٣٤: الطبقات*"؛ لأنه كان يسكن بالحيرة ويدخل الأرياف، فثقل لسانه؛ وهذا الاعتبار يحدد لنا منشأ الشعر، فإن عرب الجنوب وعرب الشمال كانوا يرتضخون لكنة حميرية أو أرامية أو نبطية أو عربية مشوبة بإحداها، وإن أكثر قبائل مضر هي التي نزلت نجدًا وما حوله إلى تهامة والحجاز، فهي صميم العربية، وهنا منشأ الشعر على ما نرجح.
ومن الأدلة على حداثة الشعر ما رووه من أن كل قبيلة ادعت لشاعرها أنه الأول، ولم يدعوا ذلك لقائل البيتين والثلاثة؛ لأنهم لا يسمون ذلك شعرًا، فادعت اليمانية لامرئ القيس، وبنو أسد لعبيد بن الأبرص، وتغلب لمهلهل، وبكر لعمرو بن قميئة والمرقش الأكبر، وإياد لأبي دؤاد "ص٢٣٨ ج ٢: المزهر" وأقدم هؤلاء في القرن الرابع للميلاد، وليس يدل ذلك على أنهم تنازعوا في أول من قال الشعر، ولكن في أول من أطاله وتصرف فيه، ولولا أن مبدأه قريب من هؤلاء لوقع إليهم من الشعر المروي ما يحسم مادة النزاع.
ودليل آخر، وهو أن لعبيد بن الأبرص قصيدته التي مطلعها:
أقفر من أهله ملحوب
وهي مما لا يستقيم على وزن معروف من أوزانهم، ولا يطرد الموزون منها على وزنه، وهم مع ذلك يروونها وتغد من مفردات قائلها، وقد أسقطوا غيرها كثيرًا، فلولا أن أوزان الشعر كانت يومئذ لم يمر عليها جيل بحيث لم تكن ألفتها الطبائع بعد، لأنكروا قصيدة عبيد، ولالتوت دونها ألسنتهم؛ ولم يبلغنا من ذلك شيء على كثرة اهتمام الرواة بالتجريح والتعديل.