للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[اللغة العامية]

[اللحن وأوليته]

...

[اللغة العامية]

وهذه هي اللغة التي خلفت الفصحى في المنطق الفطري، وكان منشؤها من اضطراب الألسنة وخبالها وانتقاض عادة الفصاحة، ثم صارت بالتصرف إلى ما تصير إليه اللغات المستقلة بتكوينها وصفاتها المقومة لها، وعادت لغة في اللحن بعد أن كانت لحنًا في اللغة.

ولا بد للكلام على تأريخ العامية وشيوعها، من التوطئة ببعض القول في تاريخ اللحن؛ إذ هو أصلها ومادتها، بل هو العامية الأولى؛ لأنه تنويع في الفصيح غير طبيعي، خلاف ما قد يشبهه من اللهجات العربية المختلفة كما ستعرفه.

[اللحن وأوليته]

والمراد باللحن الزيغ عن الإعراب، وهو أول ما اختبل من كلام أعرب ولم يكن منه قبل الإسلام شيء، وإنما كانت له طيرة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حين اجتمعت كلمة المسلمين على تباين قبائلهم واختلاف جهاتهم، فتساوى الأحمر والأسود؛ ووجد فيهم من يرتضخ أنواعًا من اللكنة، ومن هؤلاء بلال؛ كان يرتضخ لكنه حبشية؛ وصهيب لكنه رومية؛ وسلمان لكنة فارسية١. ثم إنه ليس كل العرب سواء في قوة الفصاحة وجفاء الطبيعة العربية؛ فلا بد أن يكون بدء ظهور اللحن في الألفاف المستضعفين ممن لم يبلغ به الجفاء ولم تتوقح فصاحته، فربما جذبه طبعه الضعيف وقد دار في سمعه شيء من كلام المتعربين بعد الإسلام فيزيغ ويسترسل إلى ما انجذب إليه. هذا إذا لم نعتبر في أمر أولئك الألفاف ما يكون عادة من ذهول الطبع. وتبلده إذا فجأه ما ليس في قوته ولا تسمو طبيعته إليه؛ كفصاحة القرآن الكريم، فإنه فضلًا عن نزوله بغير اللغات الضيقة واللهجات الشاذة، قد انطوى على أسرار من سياسة الكلام لا تتعلق بها إلا الطبيعة الكاملة؛ ولذا كان أكثر اللحن فيه بادئ بدء؛ لأن لسان كل عربي يركب منه قياس لغته، ويدرك من أسراره بحسب قوته؛ فإذا لم يكن صليبًا جافيا قصر به طبعه فاختبل وتلبد، كما ترى فيمن يقرأ الفصيح وليس من أهله؛ ولو لم يكن ذلك لما كان أبو بكر رضي الله عنه يستحب أن يسقط القارئ الكلمة من قراءته على أن يلحن فيها؛ لأن لحن العربي خَورَ في طبعه فهو من هذه الجهة لا يستقيم إلا بمراجعته والتغيير عليه حتى يثبت على الصواب بنوع من التعلم والتلقين، وأنى لهم ذلك؟ فلا جرم كان إسقاط الكلمة وهو في حكم السهو، خيرًا من إثبات اللحن الطبيعي فيها وهو في حكم العمد.

وقد رأينا العلماء فريقين في أمر الإعراب وإطباق العرب عليه: فمنهم من يرى أنهم يتساندون في ذلك إلى السليقة ويجرون على مقتضى الطبع فلا يفطنون إلى اختلاف مواقع الكلام باختلاف


١ من هنا سمى علماء القراء عدم إقامة الحروف وأدائها على وجوهها المتناقلة عن العرب، باللحن الخفي، كما مر في "مناطق العرب". والخفي أصل الظاهر بالضرورة.

<<  <  ج: ص:  >  >>