للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الكلمات وخروفها]

...

الكلمات وحروفها:

والكلمة في الحقيقة الوضعية إنما هي صوت النفس؛ لأنها تلبس قطعة من المعنى فتختص به على وجه المناسبة قد لحظته النفس فيها من أصل الوضع حين فصلت الكلمة على هذا التركيب.

وصوت النفس أول الأصوات الثلاثة التي لا بد منها في تركيب النسق البليغ، حتى يستجمع الكلام بها أسباب الاتصال بين الألفاظ ومعانيها، وبين هذه المعاني وصورها النفسية، فيجري في النفس مجرى الإرادة، ويذهب مذهب العاطفة، وينزل منزلة العلم الباعث على كلتيهما، فإن البيان لا يؤلف أصواتًا لرياضة الصدر بها وصلابة الحلق عليها ولكنه صور نفسية في الطبيعة وصور طبيعية في النفس، فإذا لم يكن حيا ناطقًا يلمح بعضه بعضًا، ولم يكن بتركيبه وطريقة نظمه كأنما يحمل من معناه للنفس مادة الإرادة أو الفكر لم يجد شيئًا، وانقطع به غرضه واستهلكه انصراف النفس عنه، وصارت معانيه كأن ليس لها أصول فيها، وكأنها مادة جامدة، أو روح مادة ميتة، بل هو ربما سفل إلى منزلة الإشارة التي هي اللغة الأولى منذ كان الإنسان يتكلم بحواسه، والتي هي أضعف الكلام وأخفاه وأشد التباسًا في مذاهب المعاني النفسية؛ لأنها "أي: الإشارة" باب من النطق الصامت؛ كما أن ذلك لون من الصمت الناطق.

أما الأصوات الثلاثة التي أومأنا إليها فهي:

١- صوت النفس، وهو الصوت الموسيقي الذي يكون من تأليف النغم بالحروف ومخارجها، وحركاتها ومواقع ذلك من تركيب الكلام ونظمه على طريقة متساوقة وعلى نضد متساو، بحيث تكون الكلمة كأنها خطوة للمعنى في سبيله إلى النفس، إن وقف عندها هذا المعنى قطع به.

٢- صوت العقل، وهو الصوت المعنوي الذي يكون من لطائف التركيب في جملة الكلام، ومن الوجوه البيانية التي يداور بها المعنى، لا يخطئ طريق النفس من أي الجهات انتحى إليها.

٣- صوت الحس، وهو أبلغهن شأنًا، لا يكون إلا من دقة التصور المعنوي، والإبداع في تلوين الخطاب، ومجاذبة النفس مرة وموادعتها مرة، واستيلائه على محضها بما يورد عليها من وجوه البيان، أو يسوق إليها من طرائف المعاني، يدعها من موافقته والإيثار له كأنها هي التي تريده وكأنها هي التي تحاول أن يتصل أثرها بالكلام، إذ يكون قد استحوذ عليها وانفرد منها بالهوى والاستجابة.

وعلى مقدار ما يكون في الكلام البليغ من هذا الصوت، يكون فيه من روح البلاغة، فإن خرج مما وقفت عنده الطباع النفسية فلم يكن في بعض الكلام مقدارًا معينًا تحسه في جهة وتفقده في جهة، وتراه مرة ماثلًا ومرة زائلًا، بل صار كأنه روح للكلام ذاته، يبادرك الروعة في كل جزء منه كما تبادرك الحياة في كل حركة للجسم الحي, فقد خرج به ذلك الفن من الكلام إلى أن يكون خلقًا روحيا؛ وكأنه تمثيل بألفاظ لخلقة النفس، في دقة التركيب وإعجاز الصنعة ومؤاتاة الطبعة المعنوية وما إليها وهيهات، ليس يقدر على تمام ذلك الوضع إلا من قدر على تمام تلك الخلقة.

<<  <  ج: ص:  >  >>