ليست هاتان الكلمتان مترادفتين بالمعنى الأخص كما جرى في عرف الناس، ولكن بينهما فرقًا نبه عليه قدامة فقال: إن النسيب ذكر خلق النساء وأخلاقهن، وتصرف أحوال الهوى به معهن، وقد يذهب [عن] قوم موضع الفرق بين النسيب والغزل، والفرق بينهما أن الغزل هو المعنى الذي اعتقده الإنسان في الصبوة إلى النساء نسب بهن من أجله، فكأن النسيب ذكر الغزل والغزل المعنى نفسه. قال: والغزل إنما هو التصابي والاستهتار بمودات النساء..... وإذ قد بان أن الذي قلناه على ما قلنا فيجب أن يكون النسيب الذي يتم به الغرض هو ما كثرت فيه الأدلة على التهالك في الصبابة، وتظاهرت فيه الشواهد على إفراط الوجد واللوعة، وما كان فيه من التصابي والرقة أكثر مما يكون من الخشن والجلادة، ومن الخشوع والذلة أكثر مما يكون فيه من الإباء والعز، وأن يكون جماع الأمر فيه ما ضاد التحافظ والعزيمة ووافق الانحلال والرخاوة، فإذا كان النسيب كذلك فهو المصاب به الغرض.
لا جرم كانت هذه الأخلاق التي يحلو بها النسيب ويعذب الغزل غير صريحة في البداوة، ولا خالصة في تلك الخشونة الفطرية التي طبع عليها العرب في جاهليتهم، فكان نسيب شعرائهم قليلًا بمقدار تلك الأخلاق التي انسلخت من الطبيعة العربية وتحولت عن صميمها بما فيها من المادة الحضرية الموروثة أو المكتسبة؛ لأن أول من تعهر في شعره من العرب وشبب بالنساء، إنما هو امرؤ القيس بإجماع الرواة، وكان أبوه من ملوك كندة فظهرت في غزله الحضارة اليمنية وأفسدتها صعلكة الرجل؛ إذ كان على أنه ابن ملك لا يستتبع إلا صعاليك العرب وذؤبانهم، وقد شبب حتى بنساء أبيه. وكان هذا سبب نفيه، لا ما زعموه من أن الملوك كانت تأنف لأبنائها من الشعر، وقد نبه على ذلك الجاحظ "في الحيوان" وسنكشف قلب هذا الشاعر متى وصلنا إلى ترجمته. وكان قبل امرئ القيس خاله مهلهل، وهو زير نساء، ولكنه كان بعين أخيه كليب فارس العرب المشهور -وقد مر وصفه- فلم يك بالمفحش ولا بالبذيء، ولما كان مهلهل أول من أرق الشعر كان كذلك أول من غنى بالتشبيب من شعره "ص٦١: سرح العيون".
ولم يجئ بعد هذين الشاعرين من يتهالك في غزله غير النابغة الذبياني، وقد أفحش في بعض نسيبه إفحاشًا كأنه رومي أو فارسي، لطول ما صحب المناذرة والغساسنة، أما سائر الشعراء من العرب فكانوا على سنة قومهم من الغيرة والأنفة؛ ولذلك ظهر النسيب فيهم طبيعيا [فقامت] فيه الطلول والآثار، وتشوقوا بالرياح الهابة والبروق اللامعة والحمائم الهاتفة والخيالات الطائفة وبكوا على آثار الديار العافية وأشخاص الأطلال الدائرة.
وهم إذا وصفوا محاسن النساء لم يزيدوا على الأوصاف الطبيعية التي تقع عليها الأعين؛ إذ كن غير مقصورات ولا محجوبات، وإنما تجيء طهارة الغزل من اعتبار الحسن اعتبارًا طبيعيا، كالذي تعرفه النفس من جمال الشمس والقمر، وخضرة الرياض، وأريج الأزهار، ونحو ذلك؛ وأظن أن