للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[فصل: الطريقة النفسية في الطريقة اللسانية]

والقرآن وإن كان لم يخرج عن أعلى طبقات اللغة، ولا برز عن وجوه العادة في تصريفها، غير أنه أتى بذلك من وراء النفس لا من وراء اللسان. فجعل من نظمه طريقة نفسية في الطريقة اللسانية، وأدار المعاني على سنن ووجوه تجعل الألفاظ كأنها مذهب هذه المعاني في النفس، فليس إلا أن تقرأ الآية على العربي أو من هو في حكمه لغة وبلاغة، حتى تذهب في نفسه مذهبها لا تني ولا تتخلف، على حين أن أكثر المعاني الإنسانية يجيء من النقص في السياسة البيانية، بحيث ترى نفس السامع أو القارئ هي التي تذهب فيه فتأخذ إلى جهة وتعدل على جهة، وتصعد في ناحية وتستبطن في ناحية أخرى، ولا يكون من شأنها أن تنقاد وتذعن، ولكن أن تكابر وتأبى أو تتصفح وتستدرك أو تستحسن وتزدري؛ لأن المعنى قد ألقي إليها في ألفاظ تقصر بحقيقته النفسية في تركيبها ونظمها أو تضعف هذه الحقيقة، أو تلبسها بغيرها، أو تهمل تصورها لونًا من الألوان، أو تجيء بها على الشبه والمحاكاة مما لا يبلغ الحق في تصورها والتنبيه عليها.

وقلما تصيب لأحد من بلغاء الناس كلامًا قد أحكمت ألفاظه من هذه الوجوه كلها، فإنك لتستطيع أن تجد في كل كلام بليغ معاني قد جلبت لألفاظها، ولكنك لا تستطيع أن تجد في القرآن كله إلا ألفاظًا لمعانيها، وإن فتشت وجهدت وطلبت في ذلك الفرطة والندوة١, وهذا فصل ما بين الكلام المعجز الذي يؤخذ من وراء النفس وبين غيره مما يكون بعضه من النفس وبعضه من اللسان.

وعندنا أنه لا يمكن أن يتجه للباحث طريق الإعجاز المطلق أو يستقيم عليه، إلا إذا تدبر القرآن على تلك الوجوه التي أشرنا إليها؛ وقلب ألفاظه ومعانيه، وعرف من أين تلوى عروة اللفظ ومن أين معقد المعنى، فإن ذلك يدفع به لا محالة إلى القطع بأنه غير إنساني، وأن ليس في طبع الإنسان أكثر من فهمه وما نشك على حال في أنها كانت هي طريقة العرب في الإحساس بإعجازه، إذ ليس إلى الحقيقة غيرها من سبيل، وهم كانوا أعرف بكلامهم وسننه ووجوهه، وما يمكن أن يتفق في الطباع وما لا يتفق.

وما أخطأ هذه الطريقة أحد إلا أخطأ وجه الإعجاز العربي، وإلا فما بال كثير من بلغاء المتكلمين، وما بال أهل العربية وفنونها، وما بال أكثر علماء البلاغة نفسها لا يهتدون في الحكم عليه إلى أبعد من أنه معجز بقوة الإيمان؟ وما إعجازه إلا في قوة تركيبه على ما بسطناه بحيث لا تقرن إليه قوة إنسانية إلا خرج عن طوقها، وكان جهدها الذي تجهد كأنه في معارضته قوة من ضعف، أو عفو من جهد القوي، فكأنها لم تصنع شيئًا فيما صنفت، وجهدت وكأنها لم تجد.


١ أصل الفرطة: المرة الواحدة من الخروج، والمراد بها الشذوذ.

<<  <  ج: ص:  >  >>