وفي أيام يعقوب هذا نالت أبا الوليد ابن رشد فيلسوف الأندلس المحنة الشديدة التي أظلمت أسبابها على الأقلام ظلمة المداد، وأقام لها الكتاب من كلامهم مناحة وألبسوها من صحفهم ثياب الحداد؛ وقد تكلم عنها [الكتبة] من العرب، كالذهبي والأنصاري وابن أبي أصبيعة وعبد الواحد بن علي التميمي صاحب كتاب "المعجب"، وكان يومئذ حيا، ثم تناولها كذلك المؤرخون من الإفرنج وبسطوا فيها العبارة، كالفيلسوف رينان وغيره، وهم إنما حاروا في أسبابها؛ لأن ابن رشد كان قاضي القضاة، وكان مقربًا عند يعقوب وأبيه حتى [إن يعقوب] جاوز به مجلس أخصائه وأدناه فوق ما يؤمل، ولكن أكثر أولئك لم يرجعوا في سبب هذه المحنة إلى سيرة يعقوب هذا؛ لأنها لا تخرج عن أن تكون خلقًا من أخلاقه أو نزوة لبعض هذه الأخلاق، وإنما أعمال المرء بخيرها وشرها ميزان، وسيرته اللسان منه، فهي تنطق بصواب التمييل بين الكفتين وتدل [على] حقيقة الترجيح، وقد أسلفنا من أمر هذه السيرة ما يتعين معه الحكم بأن الأمير يعقوب لا يبغض الفلسفة مستقيمة في كتبها، ولكنه يبغضها معوجة في الألسنة، إذ تزيغ بها القلوب الخفيفة، وتضل العقول الطائشة؛ فلما نتأ رأس الفتنة، وأصبح الكلام على أن يشيع في العامة ويتقلب على الألسن ويختلط بالأهواء ووجوه التأويل، لم يكن بد من أن يحسم الأمير مادة الفتنة ويتقي الله في عامته، وهو الرجل الذي يحكمهم بالقلب المطمئن، ويحوطهم بالنظرات المحككة، فلا يزال يتحرى العدل بحسب طاقته وما يقتضيه إقليمه والأمة التي هو فيها، ولذلك نستبعد نحن أن يكون سبب هذه المحنة غضبًا من المنصور لمن يناوئ الفيلسوف، أو موجدة عليه؛ لأنه ذكر في شرح كتاب "الحيوان" لأرسطاطاليس أنه رأى الزرافة عند ملك البربر -يعني المنصور- فغفل عما يتعاطاه خدمة الملوك ومتحيلو الكتاب من الإطراء والتقريظ، ولا أن ابن رشد كان يؤثر أبا يحيى على أخيه يعقوب ولا ما أشبه ذلك مما لا يلتئم مع سيرة المنصور بتة، إذ هو لا يخرج من جلده