للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[العلوم الفلسفية]

سبق لنا فيما أسلفناه من هذا البحث كلام متفرق عن التنجيم وبعض من عرفوا به وعناية الملوك بعلوم الفلسفة وذكر الفلاسفة والشعراء؛ فلا نعيد شيئًا من ذلك هنا، وإنما نستوفي ما يتم به هذا الموضع، تفاديًا من الملل والسآمة.

نقل صاحب "نفح الطيب" عن ابن سعيد المغربي، أن كل العلوم لها حظ عند الأندلسيين واعتناء، إلا الفلسفة والتنجيم، فإن لهما حظا عظيمًا عند خواصهم ولا يتظاهر [بهما] خوف العامة، فإنه كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم، أطلقت عليه العامة اسم زنديق وقيدت عليه أنفاسه، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره إلى السلطان، أو يقتله السلطان تقربًا لقلوب العامة؛ وكثيرًا ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت؛ وبذلك تقرب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه، وإن كان غير خال من الاشتغال بذلك في الباطن على ما ذكره الحجاري "ص١٠٢ ج١: نفح الطيب".

قلنا: وهذا هو السبب في أن أولية الفلسفة تكاد تكون مجهولة في الأندلس لا يعرف منها إلا القليل، وقد ذكر صاحب "نفح الطيب" في موضع آخر أن أول من اشتهر في الأندلس بعلم الأوائل والحساب والنجوم، أبو عبيدة مسلم بن أحمد المعروف بصاحب القبلة -توفي في آخر القرن الثالث- لأنه كان يشرق في صلاته، وكان عالمًا بحركات الكواكب وأحكامها وكان صاحب فقه وحديث -زمن المزني- "ص٢٣٢ ج٢: نفح الطيب".

وقال في ترجمة يحيى الغزال الشاعر المتوفى سنة ٢٥٠هـ: إنه حكيم المغرب وشاعرها وعرافها، لحق أعصار خمسة من الخلفاء "ص٤٤١ ج١: نفح الطيب". وفي موضع آخر أن أبا القاسم عباس بن فرناس حكيم الأندلس أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وأول من فك بها كتاب "العروض" للخليل، وأول من فك الموسيقى؛ وصنع الآلة المعروفة بالمثقال ليعرف الأوقات على غير رسم ومثال، واحتال في تطيير جثمانه وكسا نفسه الريش ومد له جناحين وطار في الجو مسافة بعيدة؛ ولكنه لم يحسن الاحتيال في وقوعه فتأذى في مؤخره ولم يدر أن الطائر إنما يقع على زمكه ولم يعمل له ذنبًا.... وصنع في بيته هيئة السماء وخيل للناظر فيها النجوم والغيوم والبروق والرعود "ص٢٣١ ج٢: نفح الطيب" وكان عباس هذا زمن الأمير محمد المتوفى سنة ٢٧٣هـ.

غير أن كل أولئك على ما نرجح لم يشتغلوا بالفلسفة الإلهية ولم ينتحلوا مذهبًا من المذاهب اليونانية، ولعل أول من عرف بذلك في الأندلس محمد بن عبد الله بن مسرة الباطني من أهل قرطبة "٢٦٩-٣١٩" فإنه أكثر من النظر في فلسفة انبدقليس الذي يعده العرب أحد حكماء اليونان الخمسة الذين هم أساطين الحكمة "ص١٢: القفطي".

وشاع مذهب ابن مسرة بعده بالأندلس واشتهر به محمد بن أحمد الخولاني المعروف بابن الإمام، توفي سنة ٣٨٠هـ وهو أديب بليغ، والظاهر أنه كان يلاحي به ويعمل على نشره، حتى حمل ذلك أبا بكر الزبيدي واحد عصره في النحو المتوفى سنة ٣٧٩هـ على وضع كتاب في الرد عليه "ص٣٤: بغية الوعاة".

وذكر ابن القفطي في ترجمة يحيى بن إسحاق الطبيب الأندلسي، أن أباه إسحاق كان طبيبًا صانعًا بيده مشهورًا في أيام الأمير عبد الله، وكان يحيى هذا بصيرا ذكيا في العلاج صانعا بيده، واستوزره عبد الرحمن الناصر وولاه الولاية الجلية بعد إسلامه، ونال عنده حظوة؛ وألف في الطب كناشًا في خمسة أسفار ذهب فيه مذهب الروم بحكم أن هذا النوع لم يكن استقر بالأندلس ولا اشتهر شهرته

<<  <  ج: ص:  >  >>