إذا استصفينا المأثور من شعر العرب ومن بعدهم، وميزنا كل نوع منه بغرضه الذي يجمع جملته كما فعلنا في هذه الأبواب التي نكتب فيها، خرج لنا من ذلك هذا النوع الذي نسميه الشعر الحكمي، وهو المقصور على الدين والفلسفة وما يرمي إلى هذه الناحية، ونحن وإن لم نكن نراه شعرًا خالصًا ولكنا نراه مذهبًا من مذاهب الشعر، ولذلك خصصناه بالتاريخ.
كانت حكمة العرب راجعة إلى وثاقة الحلوم وشدة العقول وفضل المنزلة في تجارب الأيام، فهي حكمة لا تجري على مذهب ولا تدور على نحلة ولا يبلغ بها الزمن مبلغ أحد هذين النوعين بالقياس والاستنباط، كما يكون ذلك في القضايا العلمية وعلى النحو الذي أخذت إليه شرائع الرومان وفلسفة اليونان مثلًا، وإنما كان أساس تلك الحكمة رسوخ الأخلاق فيهم بحكم العادة ونظر كل امرئ لنفسه بحكم الطبيعة، وذلك كان محور دينهم الطبيعي.
لا جرم أنهم صرفوا حكمتهم في الشعر إلى ما يتعلق بالأخلاق والسياسة ولم يبالوا بتقرير مذهب من مذاهب أديانهم ولا أقاموا لظواهر هذه الأديان في شعرهم وزنًا، وقد صرفهم عن ذلك أنهم لم يدرسوا شيئًا من كتب الأديان، وأنهم كانوا يحتقرون هذه الحمراء من الفرس والنبط والروم وغيرهم، وقد كانت النصرانية واليهودية في بعض قبائلهم، فكانت اليهودية في بني كنانة وكندة وبني الحارث، وكانت النصرانية في ربيعة وغسان وبعض قضاعة وبني تغلب وأهل نجران، غير من كانوا في الحيرة ممن يطلقون عليهم اسم العباد، ومنهم عدي بن زيد العبادي "انظر الحيوان ص٦٦ ج٧" ففيه أسماء القبائل المحلين ومن كانوا على غير دين مشركي العرب.
وقال الجاحظ في نحو هذا: والمحلون من العرب ممن كان لا يرى للحرم ولا لشهر الحرام حرمة.... إلخ.
وخرج من أهل الملتين شعراء معروفون ومع ذلك تؤثر لهم أشعار دينية على نحو ما تجد في الشعر العبراني مثلًا، إلا أن يكون لذلك سبب تستدعيه طبيعة الشاعر فيغلب على الأسباب الأخرى، والطبيعة دائمًا تقوى أسبابها وتضعف على هذا التقدير، ولم نعثر بعد جهد التفتيش وطول التنقيب إلا على [اثنين] من الشعراء اشتهروا بهذا النوع الديني من الشعر. وهما عدي بن زيد العبادي، وأمية بن أبي الصلت؛ أما عدي فكان يسكن الحيرة ويجاور الريف، وشعره لإحكام أمثاله مثل في الحكم، ومن مشهوره أبياته في الاعتبار بذهاب القرون وهلاك الملوك، ومطلعه:
أيها الشاعر المعير بالدهـ ... ـر أأنت المبرأ الموفور؟
* قلت: كان نهج المؤلف -رحمه الله- أن يسبق هذا الفصل حديث عن الشعر السياسي، ولكني لم أجد فيما خلف معقودًا لهذا الغرض، وأحسبه لم يكتبه!