قال الجاحظ في عدي "ص٦٥ ج٤: الحيوان" وكان نصرانيا ديانًا وترجمانًا وصاحب كتب؛ وكان من دهاة أهل ذلك الدهر ... ثم أورد شعرًا له يذكر فيه شأن آدم ومعصيته وكيف أغواه إبليس وكيف دخل في الحية وأن الحية كانت في صورة جمل فمسخها الله عقوبة لها حين طاوعت عدوه على وليه، ومطلع هذا الشعر:
قضى لستة أيام خليقته ... وكان آخرها أن صور الرجلا
دعاه آدم صوتًا فاستجاب له ... بنفخة الروح في الجسم الذي جبلا
وهذا هو المذهب الذي قلنا إننا لم نعرف به في شعراء العرب غير اثنين، عدي هذا أحدهما.
وأما أمية بن أبي الصلت فقد كان أعرابيا مدريا، قال الجاحظ: وكان داهية من دواهي ثقيف، وثقيف من دهاة العرب، وقد بلغ من اقتداره في نفسه أنه قد كان هم بادعاء النبوة وهو يعلم كيف الخصال التي يكون بها الرجل نبيا أو متنبيا إذا اجتمعت له. نعم وحتى ترشح لذلك بطلب الروايات ودرس الكتب، وقد بان عند العرب علامة ومعروفا بالحولان في البلاد وراوية "ص١١٧ ج٢: الحيوان".
قال ابن قتيبة: وكان أمية يخبر أن نبيا يخرج قد أظل زمانه، وكان يؤمل أن يكون ذلك النبي، فلما بلغه خروج النبي صلى الله عليه وسلم كفر به حسدًا له، ولما أنشد النبي صلى الله عليه وسلم شعره قال: $"آمن لسانه وكفر قلبه""ص١٠٧: طبقات"؛ وله من الشعر الديني شيء كثير، يقص فيه أحوال الثواب والعقاب وخرافات الأمم ونحو ذلك، وبعضه مذكور في المجموعة المسماة شعراء النصرانية.
وممن يذهب هذا المذهب من العرب غير هذين الاثنين وإن كان ليس مذكورًا بالشعر ولا يتعلق بهما فيه -ورقة بن نوفل، وكان يتناشد مع زيد بن عمرو بن نفيل أشعارًا في التوحيد وعبادة الله، ومنهم قيس بن ساعدة الإيادي الحكيم الخطيب، وكان مذهبه الوعظ والاعتبار، ولم يكن يقص كأمية وعدي؛ لأنه صرف ذلك إلى الخطابة، وهو بها أعرف وأشهر.
ذلك شأن الجاهلية، أما الإسلام فقد مضى الصدر الأول منه والشعراء على سنة العرب، وإنما تتفق لبعضهم الأبيات مما يذكر فيه أمر الآخرة أو تحقيق معنى من معاني الحكمة الأخلاقية ونحو ذلك، حتى نشأت الخلافات الأموية بين علي ومعاوية، وكان شاعر الشام يومئذ كعب بن جعيل، وشاعر العراق النجاشي أحد بني الحارث بن كعب "ص١٩٤ ج١: الكامل"، فاستنجد كل منهما بشاعر مصره ودفعاهما إلى التشيع، وكان هذا فيما نعلم أول ما تشيع الشعراء في الإسلام، ثم استبحرت هذه الفتن في الأعقاب واستحرت المفاخرات، فكان من المتشيعين لآل علي الفرزدق وكثير والكميت، فكانوا ينظمون في تفضيلهم ومدحهم وأنهم أحق بالأمر الذي خرج من أيديهم، وكان الكميت شيعيا من الغالية، وكان صاحبه الطرماح خارجيا من الصفرية يتعصب لأهل الشام، ومع ذلك كانت بينهما من الخاصة والمخالطة ما لم يكن بين نفسين "ج١: البيان" ثم فشت المقالات وتفرقت الفرق وشاعت المذاهب، فدخل أكثر الشعراء والرواة في غمار أهلها، وسنذكر في بحث الرواية شيئًا