للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[شيوع اللغة العامية وفساد العربية]

كانت العامية في الأمصار الإسلامية أول عهدها لحنًا صرفًا، لما بقي في أهلها من آثار السليقة؛ على حساب هذه الآثار كانت درجاتها في القرب من الفصيح والبعد عنه؛ فكانت لا تزال قريبة من الفصحى في عوام الحجاز والمصرين: البصرة والكوفة، إلى القرن الثالث، حتى عرف بعضهم المولد بأنه ما يكون من هذا الضرب لحنًا وتحريفًا كما أومأنا إليه من قبل.

وقد ذكر الجاحظ لغة أهل المدينة لعهده، فقال: إن لهم ألسنة ذلقة، وألفاظًا حسنة، وعبارة جيدة.... ثم قال: "واللحن في عوامهم فاش، وعلى من لم ينظر في النحو منهم غالب".

أما العامة في الشام ومصر والسواد، فقد علقوا ألفاظًا كثيرة من الفارسية والرومية والقبطية والنبطية، فسدت بها لغتهم فسادًا كبيرًا؛ لأنهم خلطوها بها خلطًا، ولم يجانسوا بين الأصل والدخيل، وليس يخفى أن أكثر ما تقتبسه العامية إنما هو من الأسماء، وأن اقتباس الصفات فيها قليل؛ لأن الأسماء هي في الحقيقة أدوات الاجتماع، والعوام إنما يلتمسون التعبير والإبانة كيفما اتفق لهم هذا الغرض، ولقد كانت الشام ومصر وسواد العرب أوفر خصبًا وأكثر عمرانًا من سائر الأمصار الإسلامية، فمن ثم كان عوامها أسقط ألفاظًا. وقد رأينا العلماء يصفون اللفظ العامي الساقط المبذوء وما يدخل في باب الرطانة من ذلك، بالسوقي -نسبة إلى السوق- لا يتجاوزون هذا الوصف؛ لأنه أبين في الدلالة في الفساد والابتذال؛ ولأن الأسواق لا تعنى من أمر الجيد والزيف إلا بألفاظ لغة الأرزاق "الدراهم" ... وهي بعد مجامع العامة على تباين أجناسهم، ومعارض الأشياء على اختلاف جهاتها، وقد قلنا في اللغات التجارية التي لا قوام لها من نفسها، وتلك حقيقة لغات الأسواق.

ورأينا العلماء ألفوا كتبًا "فيما تلحن فيه العامة" ككتاب أبي عبيدة، وأبي حنيفة الدينوري، وأبي عثمان المازني، وأبي حاتم السجستاني، وكتاب "الفاخر في لحن العامة" للمفضل بن سلمة، "ولحن العامة" للفراء١، وكل هؤلاء لا يتجاوزون المائة الثالثة، ولا يعدون في صنيعهم أن يوردوا ألفاظًا من الفصيح حرفتها العامة، ثم يذكرون أصلها على صحته، وذلك يدل على أن العامية لم تكن طغت على


١ ولأبي بكر الزبيدي الأندلسي المتوفى سنة ٣٧٩هـ كتاب فيما يلحن فيه عوام الأندلس، ولعله جرى فيه مجرى هذه الكتب تقليدًا للمشارقة، ولسلامة بن غياض النحوي المتوفى ببغداد سنة ٥٣٣هـ كتاب فيما تلحن فيه عامة زمانه، ولا نراه إلا تقليدًا ومتابعة، وكذلك فعل أبو منصور الجواليقي المتوفى سنة ٥٣٩هـ فألف فيما تلحن فيه العامة ولم يخص كتابه بزمن، وهذا يدل على أن ذلك النوع من التأليف صار لغويا محضًا، وأن العمل فيه إنما كان شرحًا وجمعًا واختصارًا، كما فعلوا في سائر الفنون التي لا يؤلف فيها لشيء إلا لأن التأليف "عمل العلماء".

<<  <  ج: ص:  >  >>