للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الجمل وكلماتها]

والجملة هي مظهر الكلام، وهي الصورة النفسية للتأليف الطبيعي، إذ يحيل بها الإنسان هذه المادة المخلوقة في الطبيعة، إلى معان تصورها في نفسه أو تصفها، ترى النفس هذه المادة المصورة وتحسها, على حين قد لا يراها المتكلم الذي أهدفها لكلامه غرضًا ولكنه بالكلام كأنه يراها.

ولذا كانت المعاني في كلماتها التي تؤدي إليها كأنها في الاعتبار بقية الشعاع النظري الذي اتصل بالمادة الموصوفة، أو بقية حس آخر من الحواس التي هي في الحقيقة جملة آلات الإنسان في صنع اللغة.

فإذا ركب الكلام على أصل من التركيب لا يتأدى بالمعاني إلى أبعد من مظاهر الحس، فهذا هو الكلام الطبيعي الذي لا يزيد من فضيلة المتكلم أكثر مما تزيد الحواس نفسها في هذا المتكلم من فضيلة الإنسانية، وذلك أصل هو من رقة الشأن وخفة المنزلة بحيث يخرج الناس جميعًا بالسواء فيه ليس لأحد منهم على أحد فضل، ما دام الكلام سواء فيهم من أصل الخلقة وطبيعة الحياة.

أما إذا خرج الكلام إلى أن يكون في أوضاعه ومعانيه كأنه تصرف من الحواس في أنواع الإدراك ودرجاته كتصرف النظر في اكتناه الجمال وإدراك معانيه؛ أو السمع في استبانة الأصوات وحس نغماتها، إلى ما يشبه ذلك من صنع سائر الحواس في كمالها العصبي, فهذا هو الكلام النفسي الذي يضيف إلى صفة المتكلم صفة البلاغة ويرتفع به عن أن يكون إنسانًا من الجنس إلى أن يكون -بفضيلة البلاغة- مادة إنسانية لجنس الإنسان.

فإذا ارتفع الكلام إلى أن يصير في تقليبه ومداورته كأن طرق ما بين الحواس في أنواع إدراكها وبين النفس، فلا يخطئ التأثير ولا ينافر جهة من جهاته, ولا يعدو أن يبلغ من الفؤاد مبلغه الذي قسم له, فهذا هو الكلام الذي يبين البليغ ويفرده من قومه ويجعله مهوى قلوبهم وسمت أبصارهم إذ يكون في نفسه من هذه القوة البيانية ما يجعله خليقًا أن يعتده التاريخ أحد المجاميع النفسية في الأرض، وهم الذين لا يكثرون بعددهم، ولكن بمواهبهم؛ حتى إن أحدهم ليكون أمة في نفسه. ويكون عمله تاريخ عصر من أمة؛ وهم أولئك الأفراد العظماء الذين تبتدئ درجاتهم مما بين الخلق بعضهم من بعض، إلى ما بين الخلق والخالق، من الشعراء إلى الأنبياء.

فإذا بعد الكلام وأمعن حتى يكون بدقائق تركيبه وطرق تصويره كأنما يفيض النفس على الحواس إفاضة، ويترك هذا الإنسان من الإحساس به كأنه قلب كله، ثم يبلغ من ذلك إلى أن يكون روح لغة كاملة وبيان أمة برمتها، لا يحيله الزمن عن موضعه، ولا يقلبه عن جهته، وإلى أن يجعل البلغاء على تفاوتهم فيما بينهم، وعلى اختلاف عصورهم وأسبابهم المتلاحقة، وكأنهم معه طبقة واحدة وفي طوق واحد من العجز؛ يعنيهم طلبه، ويعنتهم إدراكه ويعرفون تركيبه ثم لا يجدون له مأتى من النفس ولا وجهًا من القدرة فذلك هو الكلام المعجز، بل هو معجزة الطبيعة الكلامية التي لا تعرف في تاريخ أمة

<<  <  ج: ص:  >  >>