وقد كان الأصل عندهم أن يضبط المحدث معنى الحديث، فأما الألفاظ فمنها ما يتفق لهم بنصه. وخاصة في الأحاديث القصار، وفي حكمه وأمثاله صلى الله عليه وسلم، ومنها ما لا يتفق، فيلبسه الراوية من عبارته، حتى قال سفيان الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني، إنما هو المعنى. ولبعضهم كلام حسن في ذلك، وقال إن اليقين ليس بمطلوب في هذا الباب وإنما المطلوب غلبة الظن الذي هو مناط الأحكام الشرعية، وكذا ما يتوقف عليه من نقل مفردات الألفاظ وقوانين الإعراب، فالظن في ذلك كله كاف، ولا يخفى أنه يغلب على الظن أن ذلك المعقول المحتج به "أي: على اللغة والنحو" لم يبدل؛ لأن الأصل عدم التبديل، لا سيما والتشديد في الضبط والتحري في نقل الأحاديث شائع بين النقلة والمحدثين ومن يقول منهم بجواز النقل بالمعنى فإنما هو عنده بمعنى التجويز العقلي الذي لا ينافي وقوع نقيضه، فلذلك تراهم يتحرون في الضبط ويتشددون، مع قولهم بجواز النقل بالمعنى فيغلب على الظن من هذا كله أنها لم تبدل, ويكون احتمال التبديل فيها مرجوحًا فيلغى ولا يقدح في صحة الاستدلال بها، ثم إن الخلاف في جواز النقل بالمعنى، إنما هو فيما لم يدون ولا كتب، وأما ما دون وحصل في بطون الكتب فلا يجوز تبديل ألفاظه من غير خلاف بينهم. وتدوين الأحاديث والأخبار، بل وكثير من المرويات، وقع في الصدر الأول قبل فساد اللغة العربية، حين كان أولئك المبدلين -على تقدير تبديلهم- يسوغ الاحتجاج به، وغايته يومئذ تبديل لفظ بلفظ يصح الاحتجاج به، فلا فرق بين الجميع في صحة الاستدلال. قلنا: وهذا الكلام يرجع آخره إلى أوله كما ترى، فلا ينفي رواية الأحاديث بالمعنى؛ لأنه توجيه في صحة الاستدلال بها على النحو واللغة، وإنما الذي هو مادة كلامنا في هذا الباب، اللفظ والعبارة وقيامها بالمعنى. ولولا ما نعلم من حفظ العرب وثبات ما ارتبطوا في صدورهم. وأن الحديث هو كان علمًا من علم الصحابة رضوان الله عليهم لشككنا في لفظ كل ما رووه من الأحاديث إلا قليلًا مما يكون لفظه نصا لمعناه. كالوضع البياني والحكمة القصيرة، والمثل السائر ونحوها.