وهذا النوع آخر ما تبلغ إليه رقة الحضارة من فنون الأدب؛ لأنه إنما يتخصص به أناس لا يبالون أن يغمرهم سواد الحمقى وأهل المجون، وهم يعلمون أنهم شعراء العامة، وأنهم لا يلجون إلى الخاصة إلا من باب الطبع المنسجم، ومن جهة الذهن المتفكه، وإنما قوام أمرهم الحيلة الطريفة والنادرة المعجبة والكلمة المتهالكة، وهذا كله وإن كان محتاجًا إلى ظرف اللسان، وإلى شدة المعارضة، وإلى نبوغ متميز في القريحة إلا أنه لا يقوم عليه شيء من أمر اللغة، فإذا كان فيها لم يزدها، وإذا سقط منها لم ينقصها، ولذلك ترى هذا النوع أكثر ما يكون في الأمم التي هرمت لغتها، كاللاتين واليونان، ومن أشهر نوابغ اليونان فيه: الشاعر تراس، والشاعر مياندر الذي يقال إنه ألف ثمانمائة رواية كلها قصائد مضحكة، وكان قبل الميلاد بثلاثة قرون، وقد عثروا من زمن قريب في إحدى القرى المغمورة في ضفة النيل على أربع قطع له كانت ضحكًا مدفونًا في الأرض من ٢٢٠٠ سنة.
ولا جرم أنه لم يكن للعرب شعر هزلي في جاهليتهم، لكنهم مع ذلك لم يدعوا التنادر؛ إذ هو شيء في أصل الفطرة وفي مذاهب المعاني، فجاءوا لذلك في شعرهم بنوع من التهكم يستخف الوقور ويرمي إلى الغاية من سياسة الهزل، فيبقى حسرة ولا يذهب ضحكا، كقول بعضهم:
إذا ما تميمي أتاك مفاخرا ... فقل عد من ذا، كيف أكلك للضب
وقول المكعبر الضبي في بني العنبر، وكان قومه أغير عليهم فاستغاثوا بهم فلم يغيثوهم "ص٤٩ ج١: الكامل":
وإني لأرجوكم على بطء سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاء!
يتهكم بهم ويقول: هذا رجاء غير صادق ولا موقوف عليه، كما أن هذه الحوامل لا يعلم ما في بطونها وليس بميئوس منهم.
وأكثر ما يكون ذلك عندهم في معاني الهجاء، ولهذا سماه المتأخرون التهكم، والهزل الذي يراد به الجد، وقالوا في الفرق بينهما إن التهكم ظاهرة جد وباطنه هزل، وهو ضد الثاني؛ لأن ظاهره يكون هزلًا وباطنه جد، وقد ورد منه في القرآن قوله تعالى:{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيم} .
وقد مر عصر الجاهلية والإسلاميين لا يعدو بهما الشعراء ذلك هزلًا، حتى إذا استبحر الترف وفسدت مرة الاجتماع، وتهالكت طبيعته، جعل الشعراء يتظرفون ويتنادرون ويفتنون في أساليب الهزل؛ لأن ذلك كان سببًا من أسباب معاشهم؛ إذ رأوا الخلفاء والأمراء قد اتخذوا لأنفسهم مقربين ممن يضحكونهم بالنوادر والمجون، شعراء وغير شعراء، كأشعب الطماع، وأبي دلامة الشاعر، وأبي الحسين بن الضحاك المعروف بالخليع المتوفى سنة ٢٥٠هـ، وأبي العبر، وأبي العيناء، ومزيد