قد عرفت ما نريده من الفرق بين الشعر الحكمي والأخلاقي، فهذا الأخير هو ديوان التجارب، وإن في كتاب القلب صفحتين: واحدة يحفظها التاريخ وينساها الاجتماع، وهي التي تخط عليها تفاصيل الحوادث، والأخرى يحفظها الاجتماع وينساها التاريخ، وهي صفحة الحكمة الأخلاقية التي تستخلص من جملة التاريخ، فهذه هي التي تستملي منها النفس معاني الشعر الأخلاقي دائمًا ولذلك تجد هذا النوع من الشعر كثيرًا عند العرب يصورون فيه أخلاقهم تصويرًا طبيعيا لم تخلق فيه صنعة الكلام شيئًا، ويذكرون حكمتهم المستفادة من التجارب، ويدونون نصائحهم التي هي صفوة تلك الحكمة، وذلك هو الذي سماه أبو تمام في حماسته "باب الأدب".
نرى العرب لصفاء فطرتهم وحدة أذهانهم وقوة طباعهم كأنما ينظمون في شعرهم الأخلاقي قضايا الفلسفة التي ذهب في تحقيقها شطر كبير من عمر اجتماع الإنساني، حتى لا تكاد تجد مبدأ من المبادئ الاجتماعية التي قررتها الفلسفة الحديثة إلا ولمثله ذكر في شعر هؤلاء الأعراب، وتأويل ذلك أن هذا الاجتماع الحديث مصنوع لا طبيعي، والفلسفة إنما هي حقائق الطبيعة، فهي تدعو لها أبدًا، ولكون الناس مجتمعين على صورة يجهلون حقيقة ألوانها وأصباغها اختلفوا في الدلالة على ذلك اختلافًا بينًا نشأت منه هذه المذاهب الكثيرة التي ترمي بجملتها إلى غرض واحد، وهو تلوين الصورة الاجتماعية بألوانها التي تصلح لها في الحقيقة حتي تظهر من دقة التناسب وإحكام الملاءمة وسلامة الوضع في صبغ كأنه إلهي؛ فالعرب لما كانوا من صميم البداوة وفي إقليم كأنه بموافقته لنمو العقل أقرب إلى السماء من سواه، كانوا يذكرون الصفات الأخلاقية للفرد والمجتمع فلا يعدون حقيقة الصفة؛ ولو أخذت تلك الصفات اليوم لخرجت عن موضعها إلى أن تكون في اعتبارنا مبادئ؛ لأنها قيلت في حالة طبيعية فكانت صفة تحق، ولما استدار الزمان صارت حقا يوصف؛ خذ مثلًا قول زهير:
على مكثريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
فمهما أدرت مذهب الاشتراكية، ومهما قلبت آراء علمائه، لا تجد صوابه يخرج عن هذا البيت؛ فلو راعى المكثرون حق من يعتريهم ممن يعملون عندهم ومن هم مادة قوتهم -والحق كلمة جامعة لكل ما يوافق حقيقة المرء- وكذلك لو صار المقلون من أهل السماحة والبذل يتجاوزون عما لا يضر بالحق ولا يريدون من هذا الحق إلا أن يبذلوه في إصلاح أحوالهم حتى لا يأخذهم طمع الإدخار بوهم المزاحمة للمكثرين, لو راعوا ذلك حق مراعاته لبقي أهل المال مهنئين بأموالهم؛ والمقلون مغتبطين بإقلالهم؛ والاشتراكية إنما هي الموصل الذي يشرك هذين الطرفين في الامتزاج بالرضى. ولعل أديبًا أن يستقرئ هذه المعاني في الشعر العربي ويشرحها بالمبادئ الحديثة، فإنه لا يعدم من ذلك كتابًا حكيمًا.
وكان الشعراء من العرب أثبت الناس على أخلاقهم التي يصفونها، ولذلك دلت عليهم دلالة