بقي علينا -بعد أن تكلمنا في استعارات امرئ القيس وتشبيهاته- أن نأتي على بقية هذا الكلام مما يصف معانيه وألفاظه وما يقع عليه الناقد في سائر كلامه ويصيبه من حسناته المتفرقة في كتب البيان، وقد أشرنا إلى بعض مبتكراته تلك ونحن مستوفون سائرها هنا, قالوا: إنه أول من فتح باب الاحتراس، وذلك في نحو قوله "ص٦: الديوان":
إذا ركبوا الخيل واستلأموا ... تحرقت الأرض واليوم قر
أي: واليوم بارد، فاحترس وكان الاحتراس بالقافية التي هي تمام البيت وهذا من أبدع ما يجيء؛ لأنه يزيد في تمكين القافية ويكسبها عزة لا تكون لكلمة غيرها في البيت بجملته.
وقد رأينا هذا الشاعر يبالغ في استقصاء جزئيات المعاني مبالغة هي طبع فيه، وهي عند التي هيأت له مثل هذا الاحتراس، وقد مر في ذلك ما وصف توقد الحلى، ومثله في كلامه كثير وسيمر بك شيء من بديعه، وكذلك قالوا في التتبيع، وهو من أنواع الإشارة وذلك أن يريد الشاعر ذكر الشيء فيتجاوزه ويذكر ما يتبعه في الصفة وينوب عنه في الدلالة عليه. قال ابن رشيق "ص٢١٥ ج١: العمدة": وأول من أشار إلى شيء من ذلك امرؤ القيس يصف امرأة:
ويضحي فتيت المسك فوق فراشها ... نئوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
فقوله "يضحى فتيت المسك" تتبيع، وقوله:"نئوم الضحى" تتبيع ثان، وقوله:"لم تنتطق عن تفضل" تتبيع ثالث، وإنما أراد أن يصفها بالترف والنعمة وقلة الامتهان في الخدمة، وأنها شريفة مكفية المئونة، فجاءها بما يتبع الصفة ويدل عليها أفضل دلالة.
وقال [ابن رشيق] أيضًا في باب التمثيل الذي هو من ضروب الاستعارة -وذلك أن تمثل شيئًا