والألفاظ في هذا النوع هي التي تسوس المعاني وتنزلها في منازلها وتضعها على أقدارها، لا من حيث إن اللفظ هو الذي يوجد المعنى، فذلك ظاهر الاستحالة، ولكن على أنه هو الذي يخصص المعنى إذا كان جنسًا، وهو الذي يؤكد مبالغة في تلوين صورته النفسية حتى تنطق أجزاؤه، وحتى يقوم كل جزء منها في البيان اللغوي مقام الكل الذي هو مادة الشعور الطبيعي.
ولما كانت اللغة عملًا نفسيا محضًا، كان وجود هذا النوع فيها من أخص الدلائل على تمدنها؛ لأن النظام الذي يعين درجات المعاني إنما يفصل أجزاء الموجودات على درجات شعور النفس بذوات هذه الأجواء أو بصفاتها، وهذا لا يستقيم إلا إذا كان في اللغة حياة باطنة تشبه ما في الإنسان الراقي مما يسمى بالكمال أو الحياة الروحية العالية، حتى تتكافأ النفس واللغة في تصور أجزاء المعاني وتصويرها.
ولقد أثبت العلماء أن أظهر ما يكون الفقر في اللغات المنحطة، إنما هو في أنواع الدلالة المعنوية، فكلما انحطت اللغة قلت فيها هذه الأنواع، حتى لتبلغ بها تلك القلة أحيانًا إلى أن تشبه الجماد في تجرده من الشعور ومعانيه؛ ووجدوا من لغات القبائل المتوحشة في أواسط أفريقيا ما ليس فيها ألفاظ تعبر عن الحب والمؤاخاة والعبادة ونحوها من أمهات المعاني النفسية، كأن مادة تلك اللغات من الإحساس الحيواني المحض.
والعربية تعتبر أحكم اللغات نظامًا في أوضاع المعاني، وسياستها بالألفاظ، وهي من هذا القبيل أعظمها ثروة وأبلغها من حقيقة التمدن بحيث لا تدانيها في ذلك لغة أخرى كائنة ما كانت، فالعرب لم يدعوا معنى من المعاني الطبيعية التي تتعلق بالحياة الروحية أو البدنية مما تهيأ لهم إلا رتبوا أجزاءه وأبانوا عن صفاته بألفاظ متباينة تعين تلك الأجزاء والصفات على مقاديرها؛ فأول معاني الحياة الروحية الحب، وهذه مراتبه عندهم: الهوى، ثم العلاقة، وهي الحب اللازم للقلب؛ ثم الكَلَف، وهو شدة الحب؛ ثم العشق، وهو اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه الحب؛ ثم الشعف، وهو إحراق الحب للقلب مع لذة يجدها، وكذلك اللوعة واللاعج، فإن تلك حرقة الهوى وهذا هو الهوى المحرق؛ ثم الشغف، وهو أن يبلغ الحب شغاف القلب وهي جلدة دونه، ثم الجوى، وهو الهوى الباطن؛ ثم التيم، وهو أن يستعبده الحب؛ ثم التبل، وهو أن يسقمه الهوى؛ ثم التدليه، وهو ذهاب العقل من الهوى؛ ثم الهيوم، وهو أن يذهب على وجهه لا يستقر، وذلك لغلبة الهوى عليه، ومنه رجل هائم.
وكذا فعلوا في معاني السرور والعداوة والغضب الحزب والسرعة وغيرها؛ ومن معاني الحياة البدنية أصول المعاش الطبيعية التي هي قوام أمرهم: اللبن، فإن له نحو سبعين اسمًا باعتبار اختلاف أحواله، وقد ذكرها السيوطي كلها في "المزهر""الفصل ١٥- النوع ٢٩"؛ وكذلك الخيل والإبل والشاء، ثم صفاتها وتسمية أجزائها ونحو ذلك مما نكتفي لشهرته بالإشارة إليه.
وعلى أكثر هذا النوع من نظام المعاني بالألفاظ بَنَى الثعالبي كتابه "فقه اللغة" وهو أشهر من أن ينبه عليه، ولذا أوجزنا في أمثلته اكتفاء، بالدلالة على مظنتها، والحقيقة تنهض بها الكلمة الواحدة.
ومما ننبه إليه في هذا الفصل، أن أرقى الأمم مدنية إذا بلغت فيها المعاني النفسية مبلغ الهرم، وتعلقت بها الخواطر من كل جهة بحيث تفصل أجزاءها تفصيلًا؛ فجهد الأمة عند ذلك أن تحيط المعنى باصطلاحات علمية، وتعرف حوادثه على نحو ما تعرف به فصول العلوم، كالحب مثلًا، فإن مراتبه التي يشير إليها العرب بالألفاظ المتقدمة يشير إليها غيرهم بتعاريف وفصول واصطلاحات، ثم لا تعدو بعد ذلك كله ما كان يفهمه العرب منها برقة شمائلهم ولطف حواسهم النفسية؛ فكأنهم لما عدموا العلوم جعلوا ألفاظهم فصولًا علمية، وذلك منتهى ما يكون من تمدن اللغات.
ثم أنت إذا تدبرت هذا النوع رأيته انتباهًا روحيا صرفًا، بيد أنه ممثل بالألفاظ، ورأيت فيما ترى كأن النفس العربي طيفًا يحرك اللغة حتى بأنفاس الخطرات، ويكشف لها كل عاطفة دقيقة ولو اختبأت في أشعة من النظرات!