للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تاريخ القرآن: جمعه وتدوينه]

أنزل هذا القرآن منجما في بضع وعشرين سنة، فربما نزلت الآية المفردة، وربما نزلت آيات عدة إلى عشر، كما صح عن أهل الحديث فيما انتهى إليهم من طرق الرواية، وذلك بحسب الحاجة التي تكون سببًا في النزول، وليثبت به فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن آياته كالزلازل الروحية، ثم ليكون ذلك أشد على العرب وأبلغ الحجة عليهم وأظهر لوجه إعجازه وأدعى لأن يجري أمره في مناقلاتهم ويثبت في ألسنتهم ويتسلسل به القول.

ولولا نزوله متفرقًا: آية واحدة إلى آيات قليلة، ما أفحمهم الدليل في تحديهم بأقصر سورة منه. إذ لو أنزل جملة واحدة كما سألوا لكان لهم في ذلك وجه من العذر يلبس الحق بالباطل، وينفس عليهم أمر الإعجاز, ويهون في أنفسهم من الجملة بعض ما لا يهون من التفصيل؛ لأنهم قوم لا يقرءون ولا يتدارسون، ولكن الآية أو الآيات القصيرة تنزل في زمن يعرفون مقداره بما ينزل في عقبها ثم هم يعجزون عن مثلها في مثل هذا الزمن بعينه، وفيما يربو عليه ويضعف، وعلى انفساح المدة وتراخي الأيام بعد ذلك إلى نفس من الدهر طويل؛ أمر هو يشبه في مذهب الإعجاز أن يكون دليل التاريخ عليه وأنه ليس في طبعهم ألبتة لا قوة ولا حيلة، فإن العجز عن صنع المادة لا يثبت في التاريخ إلا إذا ثبتت مدة صنعها على وجه التعيين بأي قرينة من القرائن التاريخية.

وبخاصة إذا اعتبرت أن أكثر ما أنزل في ابتداء الوحي واستمر بعد ذلك من لدن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي حراء١ فيتحنث فيه الليالي، إلى أن هاجر من مكة, إنما هو من قصار السور، على نسق يترقى إلى الطول في بعض جهاته. وذلك ولا ريب مما تتهيأ فيه المعارضة بادئ الرأي إذا كانت ممكنة؛ لأنه مفصل آيات، ثم لقرب غايته ممن ينشط إلى معارضته والأخذ في طريقته، دون ما يكون ممتد النسق بعيد الغاية، فتصدف النفس عن جملته الطويلة، ويخلف نشاطها فيه؛ لأن للقوة النفسية حدا إذا حملت على ما وراءه كان من طبعها أن تنتهي إلى ما دونه، وهذا أمر يعرفه من يرى شاعرًا يعد أبيات القصيدة الرائعة قبل أن يقرأها، أو كاتبًا ينظر في أعقاب الرسالة الجيدة ولما يأخذ في أوائلها.

وهلم مما يجري هذا المجرى.

وقد كان ابتداء الوحي في سنة ٦١١ للميلاد بمكة، ثم هاجر منها النبي صلى الله عليه وسلم في سنة ٦٢٢ إلى المدينة، فنزل القرآن مكيا ومدنيا. وقد اختلفت الروايات في آخر آية نزلت وتاريخ نزولها، وفي بعضها


١ هو جبل من جبال مكة على ثلاثة أميال منها؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتيه الوحي يتعبد في غار من هذا الجبل، وفيه ابتدأ الوحي إليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>