للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[رواية اللغة]

[تاريخ لفظتي: اللغة واللغوي]

...

[رواية اللغة]

كانت هذه اللغة سليمة من الفساد، خالصة من الشوب؛ والإسلام لا يزال في ريعانه، واندفاع موجته، والعرب في أمر الأدب على إرث من جاهليتهم، يأخذون في سَمْتِها، ويتجاذبون على منهاجها، فيسمرون بالأخبار ويتحملون بالأشعار؛ لا يرون إلا أن ذلك علم آبائهم، وإرث أبنائهم, حتى بدأت اللغة تلتوي بعد سلاستها، وتمرض بعد سلامتها، ونزلت من بعض الألسنة في موضع نفار ومرمى شراد، فطار اللحن في جنباتها، وخيفت عليها عاقبة الاختبال، وما يتوقع في تداول النقص من هذا الوبال، فتقدم الكفاة من أهل عصمتها ينهجون إليها السبيل، ويقيمون عليها الدليل، وكان من ذلك وضع النحو كما فصلناه في موضعه.

ومنذ وضع النحو اكتسب هذا الكلام العربي أول معنى لغوي اصطلاحي؛ لأن اللغة ما دامت في حياطة من السليقة وإلى ملجأ من الفطرة، لا يكون من وجه للنظر فيها على أنها علم يفيده الدرس ويثبته التلقي، ولا سواء في الاعتبار العلمي ما تنشأ على معرفته صحيحًا، وما تعرف صحته وخلوصه بعد أن تنشأ وتتحرى ذلك وتأخذ في أسبابه بالتلقين والتخريج.

[تاريخ لفظتي: اللغة واللغوي]

وقد تتبعنا الأطوار التي تعاقبت على هذا اللسان حتى أطلق عليه المعنى العلمي الذي يفهمه المتأخرون عند إطلاق لفظة "اللغة"، وصار يقال فيه وفي العالم به: اللغة واللغوي، ولنستخرج تأريخ هذه الكلمة "اللغة" في دلالتها الاصطلاحية، فرأينا أن بداءة هذا التاريخ كانت لعهد النبي صلى الله عليه وسلم، حين جاءته وفود العرب فكان يخاطبهم جميعًا على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وتباين بطونهم وأفخاذهم، وعلى ما في لغاتهم من اختلاف الأوضاع وتفاوت الدلالات في المعاني اللغوية، على حين أن أصحابه رضوان الله عليهم ومن يفد عليه من وفود العرب الذين لا يوجه إليهم الخطاب, كانوا يجهلون من ذلك أشياء كثيرة؛ حتى قال له علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وسمعه يخاطب وفد بنى نهد: "يا رسول الله، نحن بنو أب واحد ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره"، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضح لهم ما يسألونه عنه مما يجهلون معناه من تلك الكلمات، ولكنهم كانوا يرون هذا الاختلاف فطريا في العرب فلم يلتفتوا إليه.

فلما تكلموا في تفسير القرآن وغريب الحديث، وكانوا يلتمسون لذلك مصادقه من أشعار العرب، وضح هذا المعنى اللغوي، وأكثر ما كان هذا المعنى وضوحًا في زمن ابن عباس رضي الله عنهما؛ فهو الذي سن ذلك للمفسرين، وقال إن الشعر ديوان العرب؛ فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله "بلغة العرب" رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه. وقد سأله نافع بن الأزرق وصاحبه نجدة بن عويمر مسائل كثيرة في التفسير، وجعلا الشرط عليه أن يأتي لكل كلمة بمصداقها من كلام العرب -وهي أسئلة مشهورة أخرج الأئمة أفرادًا منها بأسانيد مختلفة إلى ابن

<<  <  ج: ص:  >  >>