ليس يتم الغلب على أمة من الأمم بتسخير أفرادها واسترقاقهم، ولا بقلب حكومتها من جنس إلى جنس؛ فإن الأشخاص لا يتغيرون وهم هم بما فيهم من الطبائع والأخلاق الوراثية، ولكن الغلب إنما يكون باندماج المغلوب في جنسية الغالب أو مذهبه استدراجًا لجنسيته، ومن أجل ذلك تجهد الأمم الفاتحة والمستعمرة في نشر لغتها وآدابها، فإن لم يكن لها من ذلك ما يوازن آداب المغلوبين عملت على تحويل قلوبهم بالدين، وذلك ما فعله الإسبانيون في أواخر القرن السابع، حيث عملوا على تنصير المسلمين، ولكن بقيتهم يومئذ كانت إلى التماسك والشدة؛ لأن الإسلام والملك لم يزل في جانب من الأندلس وعلى أبوابها، فعمدوا إلى أخذهم بالإقناع والمجادلة، ووكلوا هذا الأمر إلى رهبانهم، فأكب هؤلاء على العربية، ووضع رامون مارتي أحد الرهبان الدومانيكيين أول معجم عربي باللغة الإسبانية سنة ١٢٣٠م، وفي أواخر القرن الثامن كان في سلامنكة مدرسة تضم خمسًا وعشرين حلقة للدروس، منها واحدة لليونانية، وأخرى للعبرانية، وثالثة للعربية؛ أقاموها لتلك الغاية؛ ولم ينجل المسلمون عن أرض إسبانيا في القرن الحادي عشر حتى كان في هذه المدرسة سبعون حلقة للدرس، وطارت شهرتها في أوروبا، وكانت شهرة عربية؛ لأنها بفضل علوم العرب استطاعت أن تقرر العلوم الطبيعية والطبية على القاعدة العملية التي كان العرب أول من جرى عليها، وبينما كانت تلك العلوم في أوروبا لذلك العهد مبنية على التجارب البسيطة مستندة إلى أنواع من الشعوذة والحيل المضحكة. ثم تتابع إنشاء المدارس في القرن الثامن لتعليم الرهبان من الدومينيكيين والفرنسسكيين في جهات من إسبانيا للغاية عينها، ولكن هذه اللغة العربية التي تشبه السحر أخذت أولئك الرهبان بآدابها حتى كانوا هم أنفسهم سبب حياتها والقائمين بالدعوة إليها إلى القرن الثاني عشر للهجرة.
وفي أوائل القرن العاشر "سنة ٩٠٤هـ" بعد أن سقط ما بقي من الملك الإسلامي في الأندلس ووهنت تلك الجامعة بين المسلمين، أخذ الإسبانيون يحملونهم على التنصر كرهًا، فمن خافهم عمدوه ومن خالفهم طردوه، ثم تكفل ديوان التفتيش بالمراقبة على عقائد المتنصرين وتطهير مسيحيتهم الحديثة ... وبذلك بطلت حاجة الرهبان إلى البرهان فسقطت الغاية الأولى الباعثة على تعلم العربية وبقيت العربية بلا غاية عند بعضهم إلا نفسها، وبذلك انصرف عنها الطلبة، حتى إن الكردينال اكسيمنس عندما أسس كلية "الكالادي هنار سنة ١٤٩٩م" استنكف أن يضيف إلى دروسها حلقة لتعليم العربية، مع أنه احتذى في تأسيسها مثال مدرسة سالامنكة، وجعل فيها حلقتين للعبرية واليونانية، وبعد ذلك كان الأستاذ الأعظم في سالامنكة في القرن السادس عشر للميلاد، وهو فري لويس دي ليون شاعرًا لاهوتيا وفيلسوفًا يحسن اللغة العبرانية كل الإحسان ولكنه يجهل العربية كل الجهل.
ديوان التفتيش:
أنشئ هذا الديوان سنة ١٤١٨م بطلب الراهب توركماندا، للتفتيش بين الناس عن أهل العلم