قد علمت كيف كان بدء الإسناد في الحديث وما أمر الحاجة التي بعثت عليه وكيف انتهى إلى التدوين, أما تأريخ اتصال ذلك بالأدب فقد دللناك على أن العرب إنما جرت في إسلامها من أمر الشعر والخبر والنسب ونحوها على مثل عاداتها في جاهليتها، فلا جرم أنهم كانوا ينسبون أكثر ما يتناقلونه إلا أن النسبة غير الإسناد فيما اصطلح عليه الرواة؛ لأن الإسناد لا يراد به إلا شهادة الزمن على اتصال النسب العلمي بين راوي الشيء وصاحب الشيء المروي، حتى يثبت العلم بذلك على وجه من الصحة، كالدعوى التي تتلقى بثبتها من البينة، وهذا لا يستقيم إلا إذا صارت الرواية صناعة علمية، ولم يكن في العرب شيء من ذلك بالتحقيق، إلا بعد قيام دولة بني مروان حين اتخذوا المؤدبين لأولادهم؛ وذلك هو العهد الذي تسلسل فيه إسناد الحديث أيضًا لتشعب طرقه كما أومأنا إليه من قبل.
وأول إسناد عرف في الأدب كمان علميا بحتا، وذلك إسناد نصر بن عاصم الليثي إلى أبي الأسود الدؤلي في كتابه الذي وضعه في العربية وأشرنا إليه, ثم كان العلماء يروون المغازي، وهذه لا بد فيها من الإسناد وإن كان قصيرًا لقرب التابعين من عهدها الذي حدثت فيه ثم لما خيف على لسان العرب من الفساد ومست الحاجة إلى الكتابة عن العرب لصيانة اللغة والاستعانة على فهم القرآن والحديث وتجريد القياس في العربية وما إلى ذلك -نشأت الطبقة التي ابتدأ الإسناد في الأدب إلى رجالها:
١ قالوا إن أبا عمرو تنسك في آخر أيامه فأحرق هذه الكتب، وكان ذلك دأب طائفة من العلماء: يتورعون أن يأخذ الناس عنهم ما عدوه من سيئات أنفسهم فيسندوه إليهم، وقد يكون فيه الباطل والموضوع والمنكر وما لا يعرفه إلا صاحبه؛ ومنهم من كان يغسل كتبه؛ لأنها جلود، وأغرب ما وقفنا عليه أن حافظ أهل الكوفة ومحدثها محمد بن العلاء بن كريب المتوفى سنة ٢٤٣هـ "أي: بعد أن نضجت العلوم" أوصى أن تدفن كتبه معه فدفنت.... فإن لم يكن هذا هو الحب الميت فلا ندري ماذا يكون, وقد ظهر لمحمد هذا بالكوفة ٣٠٠ ألف حديث، قالوا: وكان ثقة مجمعًا عليه.