للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أولية التدوين في الأدب]

[مدخل]

...

[أولية التدوين في الأدب]

وهذا موضع بعيد المنزع منتشر الجهات، أمعنا له في البحث وأبعدنا في الطلب عن فسحة في الرأي وبسطة في الذرع وروية وأناة، حتى أمد الله بعونه وسنى لنا ويسر، فظهرنا من ذلك على مقدار يغني شيئًا في تبين نسق التاريخ ويعين على تأمله بما تتهيأ معه السلام في الحكم ويستقل به عمود الرأي إن شاء الله.

وقد رأينا أنه لم يكتب شيء مما يكون بسبيل من العلوم -غير ما سبقت الإشارة إليه من كتابة بعض الحديث- إلا في عهد كبار التابعين؛ وأول ما عرف من ذلك أن ابن عباس كان يكتب الفتاوي التي يسأل فيها، ثم كان أول ما كتب في الأدب صحيفة أبي الأسود الدؤلي المتوفى سنة ٦٩هـ "وقيل إنه توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز بين سنة ٩٩ و ١٠١هـ عن ٨٥ سنة" وهي المعروفة عند النحاة بتعليقة أبي الأسود، وفيها اختلاف بينهم نذكره في محله١.

ثم كان زمن معاوية بن أبي سفيان أول خلفاء بني أمية "توفي سنة ٦٠هـ بعد أن ولي عشرين سنة" فوفد عليه عبيد بن شرية الجرهمي النسابة الأخباري٢، وكان استحضره من صنعاء اليمن، فسأله عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وسبب تبلبل الألسنة وافتراق الناس في البلاد ونحو ذلك؛ فلما أجابه أمر معاوية أن يدون قوله وينسب إلى عبيد هذا؛ وكان ذلك أول ما دون في الأخبار. ولما استلحق معاوية زيادًا بن أبيه "مات سنة ٥٣هـ" وهو من الموالي، وكان قد ادعى أبا سفيان أبا وأَنِفَت العرب لذلك ونافروه فظفروا عليه، وعلى نسبه، عمل "أي: زياد" كتابًا في المثالب ودفعه إلى ولده


١ لم يكتب أبو الأسود إلا هذه الصحيفة، وكان أصحابه يكتبون عنه، ومما ذكره ابن النديم في الفهرست أنه رأى في مكتبة عند بعضهم قمطرًا كبيرًا فيه نحو: ٣٠٠ رطل جلود فلجان وصكاك وقرطاس مصري وورق صيني وورق تهامي وجولد أدم وورق خراساني، وفيها خطوط بعض الصحابة؛ وبينها أربعة أوراق قال: "أحسبها من ورق الصين ترجمتها: هذه فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود رحمه الله عليه بخط يحيى بن يعمر" ويحيى هذا من أبرع أصحاب أبي الأسود، وسنذكر أمره بعد.
أما أول كتاب وضع في النحو على التحقيق، فهو الكتاب الذي وضعه نصر بن عاصم الليثي النحوي من أصحاب أبي الأسود، وتوفي سنة ٨٩هـ ذكره ياقوت.
٢ في طبقات الأدباء؛ روى هشام بن الكلبي قال: عاش عبيد بن شرية ٣٠٠ سنة؛ وأدرك الإسلام فأسلم، ثم ساق له خبرًا مع معاوية ما نحسبه إلا حديث خرافة، وقد ذكر ابن قتيبة "في التأويل" ما تناقلوه في عمر لقمان صاحب النسور الذي زعموا أنه عاش أعمار سبعة أنسر، وكان مقدار ذلك ٢٤٥١سنة، فقال: وهذا شيء متقادم لم يأت فيه كتاب ولا سنة وليس له إسناد، وإنما هو شيء يحكيه عبيد بن شرية الجرهمي وأشباهه من النسابين ... على أن ابن قتيبة بعد هذا الذي أنكره "صحح" بإسناده إلى أبي عمرو بن العلاء أن المستوغر بن ربيعة عاش ٣٢٠....

<<  <  ج: ص:  >  >>