ليهود الأندلس شأن مهم في تاريخ الفلسفة؛ لأنهم حفظوها لأوروبا -كما ستعرف- وقد كان منهم في القرن السادس موسى بن ميمون الإسرائيلي الحكيم، وهو رجل يتحقق بالفلسفة والرياضيات والهيئة والطب، ويسميه اليهود موسى الثاني؛ لأنه من كبار أحبارهم؛ وقد نزح عن الأندلس بأهله فرارًا من
الاضطهاد بعد أن أظهر فيها الإسلام زمنًا، والتجأ إلى مصر، فاشتمل عليه القاضي الفاضيل المتوفى سنة ٥٩٠هـ ونظر إليه وقرر له رزقًا؛ فتناول هذا الحكيم فلسفة ابن رشد وقابلها بلغة أرسطو اليونانية، ثم استخلص من مزيجهما فلسفة صنع بها الشريعة لقومه، ولذلك أنكرها عليه مقدمو اليهود، وأشار المقريزي إلى ذلك بأن يعلم قومه الكفر والتعطيل.
ولا محل هنا لبسط هذه الآراء، ولكننا نقول إن هذا الرجل هو أول من أذاع فلسفة ابن رشد بين اليهود بما بثه منها في كتبه, وأخذ عنه في قراءته، ولما بالغوا في اضطهاد اليهود التجأ أكثرهم إلى طليطلة وما وراءها، ومنهم تلامذة الفلاسفة، ومن بقي منهم كان يظهر الإسلام ويصلي في المساجد ويقرئ أولاده القرآن، وما كان ذلك كان لينفعهم، فأمر أبو يوسف المتوفى سنة ٥٩٥هـ من ملوك الموحدين أن يتميزوا بلباس يختصون به, فظهروا فيه بأشنع صورة إذ كانوا يتخذون بدلًا من العمائم كلوتات كأنها البراديع تبلغ إلى تحت آذانهم "ص٢٠٣: المعجب"، وذلك لأن أبا يوسف كان يشك في إسلامهم، ولو صح عنده لتركهم، ثم تناسي أكثرهم العربية فشعروا بالحاجة إلى نقل كتب الفلسفة إلى لغتهم العبرانية، وقد أخذوا في ذلك، وأول من شرع منهم فيه أسرة تدعى أسرة طيبون، كان أصلها من الأندلس ثم هاجرت إلى لونل في فرسنا، فترجم اثنان من رجالها وهما موسى بن طيبون وصموئيل بن طيبون بعض تلاخيص ابن رشد في فلسفة أرسطو، وهما أول من نقل فلسفة حكيم قرطبة إلى غير العربية.
ووافق ذلك عهد الإمبراطور فردريك الثاني عاهل ألمانيا، وكان يعرف العربية، تلقاها من بعض أهلها في صقلية، والعرب يومئذ منتشرون فيها وفي نابولي.
وقد احتذى فردريك هذا مثال الإمبراطور شارلمان الذي كان معاصرًا لهارون الرشيد في بث المعارف وإنشاء المدارس ومحبة العلم وحماية أهله فكانت حضرته غاصة بالمترجمين والعلماء الوافدين حتى من بغداد. وهو الذي عهد إلى اليهود في ترجمة الفلسفة العربية إلى العبرانية واللاتينية، وقد ألف له يهوذا بن سليمان الطليطلي في سنة ١٢٤٧م كتاب "طلب الحكمة" واعتمد فيه على فلسفة ابن رشد، وأخرج له يعقوب بن أبي مريم حوالي سنة ١٢٣٢م عدة كتب من تأليف حكيم قرطبة، وتقدم إلى ميخائيل سكوت بترجمة فلسفة أرسطو عن العرب، فنقلها عن ابن رشد، ولذلك اعتبروه أول من أدخل فلسفته إلى أوروبا، وكذلك فعل هرمان الألماني في عهد هذا الإمبراطور، إلا أنه على ما يقال، اعتمد في ترجمة كتبه على بعض عرب الأندلس ممن يعرفون مصطلحات تلك الفنون.
ثم أخذ اليهود في إخراج هذه الكتب وغيرها إلى العبرانية واللاتينية، كما فعل كالوتيم في أوائل القرن الرابع عشر للميلاد، فقد ترجم كتبًا لابن رشد إلى العبرانية، وترجم كتابه "تهافت التهافت" إلى اللاتينية سنة ١٣٢٨م، وفي هذا القرن ظهر الفيلسوف اليهودي لاوي بن جرسون المعروف عند الإفرنج بلاون الأفريقي، وقد صنع بفلسفة ابن رشد ما صنعه ابن رشد بفلسفة أرسطو، فأخرجها شرحًا وتلخيصًا ثم كان آخر فلاسفتهم في القرن الخامس عشر إلياس دل مديجو الذي كان أستاذًا في كلية بادو -التي أومأنا إليها في بعض ما سلف- وضعفت بعد ذلك فلسفة اليهود المستخرجة من فلسفة ابن رشد العربية، إذ قام أعداؤها في أوائل القرن السادس عشر يزيفونها، ومن أجل ذلك نشر موسى المتسينو كتاب "تهافت الفلاسفة" للغزالي سنة ١٥٣٨م.