للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الباعث على اختراع الشعر]

الشعر قديم في فطرة العرب كما قلنا، ولكنا إنما نبحث في هذا الكلام المقفى الموزون، فهو بهذا القيد لا يكون شعرًا حتى يكون قد استوفى صفة اللفظ، ولا يستوفيها حتى تكون الألفاظ قد مرت بها اللغة في أدوار كثيرة كما أشرنا إلى ذلك، وقد بقي أن نعرف كيف نطقوا بهذا الكلام، وما الذي نبههم إليه وأجراه على ألسنتهم، وهو معلوم أن ذلك لا يمكن أن يكون احتذاء لشعر أمة أخرى، فإن السريانيين والعبرانيين لا يشترطون في شعرهم التقفية، والعبرانيون قد يشترطون القافية دون الوزن، فيكون الشعر شبيهًا بالسجع عند العرب؛ فضلًا عن أن هذه الأوزان العربية ليست لأمة من الأمم؛ قال ابن رشيق في ذلك: كان الكلام كله منثورا فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأنجاد، وسمحائها الأجواد، لتهز نفوسها إلى الكرم، وتدل أبنائها على حسن الشيم، فتوهموا أعاريض فعملوها موازين للكلام؛ فلما تم لهم وزنه سموه شعرًا؛ لأنهم قد شعروا به، أي: فطنوا له.

وهو كلام يعطيك من ظاهره ما شئت أن تتأول ولا باطن له؛ ولكن الذي عندنا من ذلك أن الوزن نفسه مر في العرب على أدوار، فكانوا يحدون الإبل من أقدم أزمانهم بكلام وأصوات تشبه التوقيع؛ لأنه من المعلوم بالضرورة أنه لا ينفس من التعب ولا يبعث على النشاط غير الأصوات الموقعة على وزن ما؛ وقد نقل ابن رشيق في "العمدة" أن أصل الحداء عندهم من النصب، وهو غناء الركبان والفتيان، اشتقه رجل من كلب يقال له جناب بن عبد الله بن هبل، فسمي لذلك: الغناء الجنابي، وكله يخرج من أصل الطويل في العروض, وهو لا يريد إلا الحداء المنظم الموزون الذي جروا عليه أخيرًا صنعة لا فطرة فيها, وقال في موضع آخر: ويقال إن أول من أخذ في ترجيع الحداء، مضر بن نزار؛ فإنه سقط عن جمل فانكسرت يده، فحملوه وهو يقول، وايداه! وايداه! وكان أحسن خلق الله جرمًا وصوتًا، فأصغت الإبل إليه وجدت في السير، فجعلت العرب مثالًا لقوله "هايدا هايدا" يحدون به الإبل. وقالوا في أصل الحداء غير ذلك "ص٢٤١ ج٢: العمدة" ولكنهم لم يرجعوه إلى ما قبل زمن مضر، وهي أقوال لا دليل عليها، وإنما جاءوا بها تأويلًا للفظ الحداء عند العرب.

ثم خرجوا عن هذا الوزن في الحداء إلى وزن الأصوات في الحروب، إذ كانوا في ذلك لا يجرون على نظام كنظام الأمم المتحضرة، ومن أجل ذلك كان طبيعيا أن تكون تلك الأصوات القوية مما تشد به القلوب على القلوب، وهم لا يمدحون شيئًا كجهارة الصوت وسعة الجرم، وهلم في ذلك أخبار عريضة ذكر الجاحظ منها طرفًا في كتابه "البيان"؛ ثم إنهم كانوا يخرجون تلك الأصوات في مواقفهم للضرب والطعن والصراع والجلاد، وتارة مقاطيع من الحروف تكون صيحات، وتارة

<<  <  ج: ص:  >  >>