أردنا بما تقدم الكلام في أولية هذه اللغة، وكيف نشأت وتفرعت، والقول في وجوه المشابهة بينها وبين غيرها، لتضم أطرافًا من التاريخ تحصر جهة معينة من جهاته، يستدل بها الباحث على الوضع المكاني لهذه اللغة في التاريخ العام؛ إذ لا سبيل إلى تعيين موضع من المواضع الدائرة التي تراكمت عليها طبقات الزمان القديم، إلا بتتبع الآثار التي تومئ إليه ولو إيماء معنويا.
والعرب -أهل هذه اللغة- قوم ملكوا الأرض ولم تملكهم، فلم يؤثر عنهم شيء في جاهليتهم الأولى من أنواع الدلالة الثابتة: كالكتابة والآثار ونحوها، ولا دخلوا في تاريخ أمة من أمم الحضارة فيكون لهم نوع من تلك الدلالة؛ وعلى ذلك يتعين أن تكون لغتهم أيضًا قد ملكت التاريخ ولم يملكها؛ وهي لا بد أن تكون قد تقلبت معهم على وجوه من الإصلاح وجرت على مناخ من التهذيب؛ وتاريخ ذلك بالطبع غير محقق بالنص، ولا سبيل إليه إلا تلك الطريقة التي سلكناها من قبل، وإن كانت هذه الجهة منها قد حفظت بعض الآثار التي يترسمها الباحث, ويراها كأنما تركت بالأمس؛ وذلك لقرب عهد الرواة في صدر الإسلام بقبائل العرب الذين خلصت من لهجاتهم هذه اللغة المضرية.
وقبل أن نأخذ إلى القصد من هذا التاريخ، نأتي على شيء من أقوال علماء العرب في أمر اللغة وتهذيبها؛ فهم مجمعون على أن إسماعيل عليه السلام أصل العربية المضرية؛ ولذلك قال صاحب "المخصص" في موضع من كتابه حين أراد أن يدل على أن لغة أهل الحجاز هي الأصل في جميع لهجات العرب: "وإنما صارت لغتهم الأصل؛ لأن العربية أصلها إسماعيل عليه السلام، وكان مسكنه مكة"١. وعندهم أن العربية قحطانية وحميرية وعربية محضة! وهذه هي التي نزل بها القرآن، وقد انفتق بها لسان إسماعيل، قالوا: وعلى هذا يكون توقيف إسماعيل على العربية المحضة يحتمل أمرين: إما أن يكون اصطلاحًا بينه وبين جرهم النازلين عليه بمكة، وإما أن يكون توقيفًا من الله تعالى، وهو الصواب ا. هـ.
وقال الجاحظ -يشير إلى فلسفة هذا المعنى وإن لم يقصده، في سياق كلامه:"أما لخواص الخلص فإنهم قالوا: العرب كلهم شيء واحد؛ لأن الدار والجزيرة واحدة، والأخلاق والشيم واحدة، وبينهم من التصاهر والتشابك والاتفاق في الأخلاق وفي الأعراق, ومن جهة الخئولة المرددة والعمومة المشتبكة، ثم المناسبة التي بنيت على غريزة التربة وطباع الهواء والماء؛ فهم في ذلك شيء واحد "في الطبيعة واللغة" والهمة والشمائل..... فإذا بعث الله عز وجل نبيا إلى العرب فقد بعثه إلى جميع
١ لهذا يعتبر النحاة مذهب الحجازيين مقدمًا؛ وصاحب المخصص ينقل دائمًا عن العلماء ولكنه لا يعزو أكثر من ينقله؛ وستمر بك أقوال في الكلام على لهجات العرب.