يخلص مما استوفيناه إلى الآن أن أمراء الأندلس وخلفاءها كانوا فيها كعواطف القلب التي تتحرك إلى المنافسة، فهم من جهة بإزاء العباسيين وأمرائهم في المشرق، ومن جهة أخرى بإزاء الطبيعة التي أنشأت الأندلسيين نشأة عقلية غير النشأة الأولى التي يساهم فيها كل أفراد النوع، وهي النشأة القلبية، فلم يكن بد لأولئك الأمراء من أن يكونوا على الحقيقة رءوس هذا الشعب الطروب، وهي لا توفق بين اندفاعه وكبحه إلا إذا كان منها حيز للسياسة الحكمية والعزمة الرحيمة، وهذا لا يتأتى مع جهل ولا جاهلية، وكذلك، ليس العلم المحض بنافع فيه على الإطلاق، وإنما لا بد من علم منوع وافتنان يوافق به الأمير أو الخليفة معظم السواد من حاشيته وقومه، فالأمير الفيلسوف لا يصلح للرعية الفقهاء، وحينئذ لا بد أن يكون الفقه في الكفة الراجحة من ميزان سياسته، فتكون له الفلسفة في خاصة نفسه؛ والفقه وما يستعان به على تجميل الملك وسياسته كالكتابة والشعر وغيرهما فيما ظهر منه للناس.
ولما كانت السيادة لعلم الفقه في أول أمر الأندلس كان الأمراء من بني أمية يعنون بشأن الفقهاء والتودد إليهم والانصياع لمشورتهم، ليتألفوا الناس بذلك ويديروا بهم الرحى الطاحنة التي هي الحرب؛ حتى إن الحكم بن هشام بات يتململ على فراشه وبعد عنه نومه حين مرض قاضيه وسمع النائحة عليه؛ لأن هذا القاضي كان يكفيه أمور رعيته بعدله وورعه وزهده.
ثم أقبل الأمراء على أهل الأدب واشتغلوا بالفلسفة، ولكنهم لم يظهروا في ذلك إلا في القرن