للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[نفي الشعر عنه صلى الله عليه وسلم]

ونحن نتم القول فيما بدأ به الجاحظ آنفًا، من تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن الشعر، وأنه لا ينبغي له، فإن الخبر في ذلك مكشوف متظاهر والروايات صحيحة متواترة، وقد قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} فكان عليه الصلاة والسلام لا يتهدى إلى إقامة وزن الشعر إذا هو تمثل بيتًا منه بل يكسره ويتمثل البيت مكسورًا! مع أن ذلك لا يعرض ألبتة لأحد من الناس في كل حالاته، عربيا كان أو أعجميا، فقد يتعتع المرء في بيت الشعر ينساه أو ينسى الكلمة منه؛ فلا يقيم وزنه لهذه العلة، ولكنه يمر في أبيات كثيرة مما يحفظه أو مما يحسن قراءته؛ فما وزن الشعر إلا نسق ألفاظه، فمن أداها على وجهها فقد أقامه على وجهه، ومن قرأ صحيحًا فقد أنشد صحيحًا.

وهذا خلاف المأثور عنه صلى الله عليه وسلم، فإنه على كونه أفصح العرب إجماعًا، لم يكن ينشد بيتًا تاما على وزنه، إنما كان ينشد الصدر أو العجز فحسب؛ فإن ألقى البيت كلامًا لم يصحح وزنه بحال من الأحوال، وأخرجه عن الشعر فلا يلتئم على لسانه.

أنشد مرة صدر البيت المشهور للبيد، وهو قوله:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

فصححه، ولكنه سكت عن عجزه

"وكل نعيم لا محالة زائل".

وأنشد البيت السائر لطرفة على هذه الصورة:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا ... ويأتيك "من لم تزود" بالأخبار

إنما هو:

"ويأتيك بالأخبار من لم تزود".

وأنشد بيت العباس بن مرداس فقال:

أتجعل نهبي نهب العبيـ ... ـد بين "الأقرع" وعيينه١

فقال الناس: بين عيينة والأقرع. فأعادها عليه الصلاة والسلام: "بين الأقرع وعيينة" ولم يستقم له الوزن.

ولم تجر على لسانه صلى الله عليه وسلم مما صح وزنه إلا ضربان من الرجز المنهوك والمشطور٢ أما الأول فكقوله في رواية البراء: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم على بغلة بيضاء يوم أحد ويقول:


١ عبيد: اسم فرس العباس، وهذا البيت من أبيات مشهورة.
٢ المشطور: جعلت البيت ثلاثة أجزاء، فيتحد العروض والضرب، وعليه أكثر رجز العرب "والجزء الأخير من الشطر الأول يسمى عروضًا، ومثله من الشطر الثاني يسمى صرا" أما المنهوك: فهو ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، وهما أخف أوزان الرجز، لا يمتنع منهما شيء على أحد.

<<  <  ج: ص:  >  >>