للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[القرن السادس وما بعده]

[مدخل]

...

[القرن السادس وما بعده]

بعد أن انقرض ملك الطوائف واستوسق أمرها لابن تاشفين بما أظهر من النكاية في العدو والدفاع عن المسلمين وحماية ثغورهم، بلف الجيوش إلى الجيوش، وصدم الخيل بالخيل، عد من يومئذ في جملة الملوك وسمي هو وأصحابه بالمرابطين. ولم يختلف عليه شيء من الأندلس، فانقطع إليه من أهل كل علم فحوله حتى ماجت [بهم] حضرته، ولم يجد بدا من أن يتبع سنن من قبله في تجميل الملك بهم؛ وبذلك اجتمع له ولابنه من أعيان الكتاب وفرسان البلاغة ما لم يتفق اجتماعه في عصر الأندلس، فكان من كتابه كاتب المعتمد على الله الوزير أبو بكر بن القصير، وكان على طريقة القدماء من إيثار جزل الألفاظ وصحيح المعاني من غير التفات إلى السجع، إلا ما جاء من ذلك عفوا، وكتب له أيضا الوزير عبد المجيد بن عبدون، وهو من أبلغ الكتاب قاطبة إلى غيرهما من الفحول الذين لم يجدوا لهم ركنًا بالأندلس، وقد ذكرنا بعضهم، فإنه لم يشتهر بها بعد نكبة ملوك الطوائف ممن تفضل على أهل الأدب، غير الوزير أبي محمد عبد الرحمن بن مالك المعافري، وكان شاعرًا بليغًا -فإنه جرى على سنن عظماء الملوك في ذلك حتى لم ير بعده مثله، وتوفي سنة ٥١٨هـ- وكان إبراهيم ابن الأمير يوسف المذكور قد عقد في هذه الدرة سماء، ولما قام بالأمر علي بن يوسف بن تاشفين سنة ٤٩٣هـ -وكان إلى أن يعد في الزهاد والمتبتلين أقرب منه إلى أن يعد في الملوك والمغلبين- اشتد إيثاره لأهل الفقه، فكان لا يقطع أمرًا ولا يبت حكومة في صغير من الأمور ولا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء "ص١١٠: المعجب" فبلغوا في أيامه ما لم يبلغوه في الصدر الأول من فتح الأندلس، ولم يكن يقرب منه ويحظى عنده إلا من أتقن علم الفروع، أي: فروع مذهب مالك، فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب ونبذ ما سواها، وكثر ذلك حتي نسي النظر في الكتاب والسنة, ودان أهل ذلك الزمان بتكفير كل من ظهر منه الخوض في شيء من علوم الكلام، وقرر الفقهاء عند أمير المسلمين تقبيح هذا العلم وكراهة السلف له وأنه بدعة في الدين، في أشباه لهذه الأقوال حتى استحكم في نفسه بغض الفلسفة وأهلها، فكان يكتب في كل وقت إلى البلاد بالتشديد في نبذ الخوض في شيء من علم الكلام وتوعد من وجد عنده شيء من كتبه؛ ولما دخلت كتب الغزالي إلى المغرب أمر هذا الأمير بإحراقها، وتقدم بالوعيد الشديد، من سفك الدم واستئصال المال، إلى من وجد عنده شيء منها؛ واشتد الأمر في ذلك؛ فهذه أعظم نكبات الفلسفة، وهذا هو سببها: مغالبة على الرزق وتهالك على السلطة، وإذا كانوا قد نسوا النظر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلقد هان بعد ذلك أن تحرق كتب الفلسفة وأن يمثل بها كل تمثيل بين يدي هذا الأمير وجمع له الفقهاء للمناظرة، فلم يكن

<<  <  ج: ص:  >  >>