ليست الشهرة بالهجاء مما تيسر لكل شاعر يسب ويفحش، فلو كان هذا لقد كان غلب الهجاء على كل شاعر، ولكن أصحاب الهجاء كأصحاب السياسة من أهلها وغير أهلها؛ يستطيع كل امرئ أن يتأول ويتنبأ وينذر ويأتي بصنوف القول كلها، ومع ذلك لا تجد شهرة السياسة إلا لنوادر الرجال؛ لأن حوادثها أرزاق وحظوظ، فلا يتفق لكل من ينتحل السياسية أن يصرف الدول ويضع ويرفع، كما لا يتفق مثل ذلك لكل هجاء؛ قال أبو عبيدة: والذين هجوا فوضعوا من قدر من هجوه، ومدحوا فرفعوا من قدر من مدحوه وهجاهم قوم فردوا عليهم وأفحموهم وسكت عنهم بعض من هجاهم مخافة التعرض لهم، وسكتوا عن هجاهم رغبة بأنفسهم عن الرد عليهم وهم إسلاميون الحطيئة، وجرير، والفرزدق، والأخطل؛ وفي الجاهلية زهير، وطرفة، والأعشى، والنابغة "ج٢: البيان".
فهؤلاء أفراد الهجائين وأقطاب السياسة اللسانية، ولم يبلغوا أن يكونوا كذلك حتى كانت فيهم السلطة والسلاطة معًا؛ وهي جماع الصفات التي ذكرهم بها أبو عبيدة، فانظر أين يقع ثمانية من جمهور شعراء الجاهلية والإسلاميين لولا أن في الشر كما في الخير أرزاقًا وأقسامًا؛ وهذا الفرزدق نفسه قد تجنب مهاجاة زياد الأعجم ووهب لمخافته عبد القيس "ج١ ص٣٧ العمدة" وتجنب هو وجرير معًا مهاجاة الأحوص إكبارًا لشعره "ص٣٨ منه" ومع ذلك لم يذكر معهما هذان الشاعران في قليل ولا كثير، ولو بقي الأمر بعد الدولة الأموية عربيا كما كان فيها لظهرت طبقات أخرى تستحق التاريخ، ولكن الذين ظهروا، وأولهم بشار بن برد، إنما صرفوا بأسهم بعضهم إلى بعض، وهجوا