هذا نوع في الصناعة يعدونه من البديع، وقد سمي الالتزام والإعنات والتضييق والتشديد، وبهذه الأسماء يدور في كتبهم، والمراد بذلك عندهم أن يعنت الناظم أو الناثر نفسه في التزام حرف أو أكثر قبل حرف الروي، وهو إنما يفعله صاحب الكلام لقوته ولو تركه لم يدخل عليه ضعف؛ غير أني أرى أن الحروف تتساوق وأن اللسان ميزان، فربما كان موضع لا يجد فيه البليغ المطبوع بدا من الالتزام فيفعل ذلك طبعًا لا صناعة؛ لأنه يرى اللسان يثبت في الكلمات، فإذا لم يقع من كل كلمة على الحرف الملتزم أخلى فلم يصب الرنة، وكان ذلك في الكلام شبيهًا بالعواثير التي تكون في الطرق، ومن أجل ذلك لا يتم حسن هذا النوع إلا في الكلمات المتوازنة بالألفاظ، كقوله تعالى:{فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} وهو أكثر ما يتفق، أو بالمقاطع؛ لأن كلتا الكلمتين التي يلتزم فيها قد لا تكون وزان الأخرى بنفسها ولكنها توازنها مع بعض مقاطع الكلمة التي قبلها، أو هما يتوازنان في بعض مقاطعهما لا في جملتها، كقوله تعالى:{وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} و"إذا اتسق" أو قلت "وسق وتسق"؛ فإذا لم يتفق هذا التوازن، كما ترى في مجنون ومفتونون مثلًا، فهو حينئذ الإعنات والتضييق والتشديد إذا كان يحتسب التزامًا؛ لأنه غير طبيعي في الكلام، بل لو اطرد لكان ثقيلًا وخمًا تثب له السليقة وثبة أحشاء المتقيئ، ولذلك السبب عينه كان الالتزام طبيعيا في الشعر؛ لأنه أعاريض متوازنة، وكان من كماله ذلك النوع الدقيق منه، وهو التزام الحركة قبل الروي، إلا أن هذه الحركة قد ينكر السمع تغيرها، وذلك فيما يقع بعد ألفات التأسيس، كسالم وظالم، فإذا جاء فيها عالم "بالفتح" فذلك هو السناد، وهو معيب لما بيناه، وقد لا ينكر السمع تغير الحركة، كما تقول: يرعد وأرعد، وهو كثير في الشعر؛ ولا يلتزم هذه الحركة إلا الفحول المبرزون، كابن الرومي، وهو أولع الناس بها، حتى إن قصيدته التي يقول فيها:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
قد التزمه فيها ففتحه ما قبل الروي، على طولها وامتداد النفس فيها، وشبيه بذلك ما فضلوا به العجاج؛ إذ زعم بعضهم أنه أشعر أهل الرجز والقصيد. وذكر أنه صنع أرجوزته:
قد جبر الدين الإله فجبر
فيها نحو مائتي بيت وهي موقوفة مقيدة، ولو أطلقت قوافيها وساعد فيها الوزن لكانت منصوبة كلها "ص٥٦ ج١: العمدة".
ولا نعرف أول من نبه على الالتزام، ولكن قدامة وابن المعتز والعسكري -وهذا توفي سنة ٣٩٥هـ- لم يشيروا إليه في كتبهم ولا ورد ذلك في كلام من نبه على البديع ممن قبلهم من الرواة؛ لأن الالتزام في أكثر مواضعه المستحسنة طبيعي -كما قدمنا- ولكن أبا العلاء المعري المتوفى سنة ٤٤٩هـ نظم على هذا النوع ديوانه المشهور باللزوميات، وقال في مقدمته: "وجمعت ذلك كله في