خرج أولاد إسماعيل عليه السلام ومنه انشعبت القبائل بعد أن كانت لغتهم قد اشتدت وقطعت مسافة بعيدة من الفرق بينها وبين أصلها الذي اشتقت منه، فابتدأت تأخذ صورة متميزة من الاستقلال.
ومن شأن الكمال في الاستقلال اللغوي استعمال القوى الكامنة في اللغة نفسها وإعطاؤها الحياة والنمو في باطنها، لا تهيئة هذا الكمال بما يتناول من قوى غيرها، فإن ذلك تبعية لا استقلال؛ وقد كان هذا الاستعمال الذي أشرنا إليه أصل التهذيب الثاني الذي أحدثته القبائل بعد انشعابها، فإن أعظم الأسباب في تكوين العربية على هذا النحو من اللين والمطاوعة على التغير الذي تعاورها في كل عصورها قبل الإسلام، إنما هو عدم كتابتها؛ لأن ما كتب لا يتغير كما أومأنا إليه في محله؛ وهي قد صادفت من العرب قومًا كما علمت في وصفهم من التركيب الخلقي الصحيح، والفطرة البدوية السليمة، والطبيعة العربية السامية؛ إذا كنا نرى اختلاف صورة الحيوان على قدر اختلاف طبائع الأماكن، فأحر بذلك أن يكون في الإنسان وفي اللغة المقومة له.
لا جرم كانت جزيرة العرب وكانت قبائل العرب وكانت لغة العرب سواء في سمو الطبيعة وتميز الشأن والنزعة إلى الكمال الفطري في كل ما هو من معاني الفطرة؛ وإنما يمتنع الكمال عن اللغات من قبل أمور تعرض من الحوادث وأمور في أصل تركيب الغريزة، فإذا كفى الله أهلها تلك الآفات، وحصنهم من تلك الموانع، ووفر عليهم الذكاء، وجلب إليهم جياد الخواطر، وصرف أوهامهم إلى التعرف، وحبب إليهم التبين وقعت المعرفة وتمت نعمة الكمال؛ وذلك شأن العرب العدنانية في كل أدوارهم إلى الإسلام.
ولهؤلاء العرب أسباب خاصة فيهم بالجارحة اللسانية، وهي التي اتخذوا منها أدوات لتهذيب اللغة وصقلها، وسنفصل أمرها بعد.
فلما تفرقت القبائل أخذت اللهجات تتنوع؛ والعرب إنما تهجم بهم طبائعهم على حقائق الكلام، وبذلك لا بد أن تكون قد تعددت طرق الوضع في اللغة بطول المدة واتساع الاستعمال وتقليب الكلام على وجوهه المستحدثة؛ ومن ثم نشأت اللغات الكثيرة التي تشير إلى تاريخ هذا التنوع؛ لأنها مادته الحقيقية، وسنكسر عليها بابًا مفردًا.
وكانت العرب يأخذ بعضها عن بعض بالمخالطة والمجاورة، فربما انتقل لسان العرب عن لغته إلى لغة قبيلة أخرى، وربما تداخلت اللغات فنشأت من اللغتين لغة ثالثة، على أنهم في ذلك لا يخرج