وقد انفرد كل من البصريين والكوفيين بمذاهب في العربية استخرجوها من كلام العرب أو وضعوها محاماة لكلامهم، كالذي كان يصنعه علماء الكوفة، وليس من عالم إلا وقد أخذ بمذاهب هؤلاء أو أولئك أو خلط بين المذهبين -كما سنفصله في باب النحو ونذكر أهله إن شاء الله- بيد أن البصريين كانوا يأنفون أن يرووا عن الكوفيين لضعفهم وتعلقهم بالشاذ وارتفاعهم عن البوادي الفصيحة، وكانوا لا يرون الأعراب الذين يحكون عنهم حجة في العربية؛ لأنهم غير خلّص؛ وكما تركوا عربيتهم تركوا شعرهم، لا لأنه فاسد كله، ولكن لمجيئه على مذاهبهم؛ قالوا: وأول من أحدث السماع في البصرة خلف الأحمر، وذلك أنه جاء إلى حماد الراوية فسمع منه الشعر، ثم تابعه البصريون فأخذوا عن حماد بعد ذلك، لانفراده بروايات من الشعر؛ فإنه هو الذي أخذ عنه كل شعر امرئ القيس؛ إلا شيئًا أخذوه عن أبي عمرو بن العلاء ومع هذا فكان البصريون لا يرون حمادًا ثقة ولا مأمونًا؛ لأنه كوفي وكفى!
أما في النحو واللغة فلا يعلم أحد من علماء البصريين أخذ شيئًا منهما عن أحد من أهل الكوفة، ولا روى عنهم شيئًا من الشعر أيضًا؛ لأن الذين أخذوا عن حماد إنما كانوا يطلبون الشعر ليرووه شعرًا لا ليقيموا منه الشواهد، ولا يعرف في تاريخ البصريين من روى الشعر عن الكوفيين للشاهد، إلا أبا زيد الأنصاري، فإنه روى عن المفضل الضبي؛ لثقته في الشعر وتحريه؛ إذ لم يكن للكوفيين راوية يذكر بإزاء علماء البصرة إلا المفضل هذا؛ وهو أوثق من روى الشعر منهم؛ وقد اختص به دون العربية واللغة؛ ولذلك أمنوا جانبه.
وكان الكوفيون يأخذون عن أهل البصرة، وما من أحد من أساتذتهم إلا وقد تلمذ لبصري، ولكنهم كانوا يتميزون بروايتهم؛ حتى لم يكن فيهم أحد أشبه رواية برواية البصريين إلا ابن الأعرابي "توفي سنة ٢٣١هـ" وهو ممن أخذوا عن الكسائي؛ ولم ير أحد في علم الشعر واللغة كان أغزر منه؛ وكذلك لا يعرف أحد في رواة المصرين كان أشد عصبية من ابن الأعرابي هذا؛ قال أبو عمرو الطوسي: كان يدع ما يعرف ويركب الخطأ ويقيم في العصبية عليه.... وكان يضع من أبي تمام، فجئته يومًا ومعي أرجوزته:
وعاذل عذلته في عذله
فقرأتها عليه "على أنها لبعض شعراء هذيل"، فقال: لا تبرح والله حتى أكتبها، فأمليتها عليه فكتبها بخطه، فلما فرغ قلت: هذا الذي تعيبه أبو تمام! فخرقها وقال: ولذا يظهر عليها أثر التكلف!
على أن مثل هذه العصبية إنما تقدر بسببها، وقد كان الأصمعي راوية البصريين، يتعصب على أبي النجم الراجز بالعشيرة؛ لعداوة ما بين ربيعة وقيس، حتى حملته العصبية على أن صرح ببغضه