لك بعض ما تناصرت عليه الأدلة واجتمعت على صحته، من تأثير القرآن في اللغة وما أصلح الله لأهلها في هذه البقية، حفظًا لكتابه، وإظهارًا لوجه من وجوه إعجازه الخالدة؛ ولكن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم. وحسبه معجزة ما تقول فيه من صفة الجنسية العربية التي جعل الأمم أحجارًا في بنائها والدهر على تقادمه كأنه أحد أبنائها، وأقام منها معضلة سياسية، في الأرض وضعها ونقدها، وفي السماء حلها وعقدها، وشد بها المسلمين فهم إذا ائتلفوا انضموا كالبنيان المرصوص، وإذا تفرقوا سطعوا في تيجان الممالك كالفصوص، وما إن يزالوا في التاريخ مرة أضوله، ومرة فصوله، وإن لم يقوموا أحيانًا بالدين، قام بهم هذا الدين إلى حين، وكيف وقد جمعهم الكتاب الذي أنزل من السماء فكان مثال آدابها، وانتشر في الأرض فكان خلعة شبابها، ودعا إليه الناس على اختلافهم فكأنما كل أمة تدعى إلى كتابها.
ونحن فقد نعلم أن هذه المعجزة ليست إلى اللغة في مردها من الفائدة، فإنما هي ترمي إلى وحدة سياسية تكون كالنبض لقلب هذا العالم كما سيأتيك. بيد أن سبيل ذلك من اللغة، فإن القرآن تنزل من العرب منزلة الفطرة اللغوية التي يساهم فيها كل عربي بمقدار ما تهيأ له من أسبابها الطبيعية، إذ كان بما احتواه من الأساليب، وما تناوله من أصول الكمال اللغوي، وما دار عليه من وجوه الوضع البياني قد هتك الحوائل ومحا الفرق التي تبين قرائح العرب اللغوية بعضها من بعض، فاجتمعت منه على الكمال الذي كانت تتخيله ولا تألوا عما يدنيها إليه معالجة واكتسابًا؛ ولو أنهم تمالئوا طوال الدهر على أن يهذبوا من لغتهم ليبلغوا بها مبلغ الكمال الوضعي، على النحو الذي جاء به القرآن، لما ازدادوا إلا تعاديًا في الرأي؛ وتباعدًا عما يجنحون إليه إذ تنزع كل فطرة إلى منزعها في كل قبيل، فيزيد الناقص منهم نقصًا فطريا وهو يحسبه كمالًا، ويبعد الكامل على حقيقة ما يلتمسه من الكمال بعد أن يرى غيره قد حسبه نقصًا؛ لأن الفطرة لا تنقاد إلا بالإذعان، ولا تذعن إلا لما يكون في حد كمالها المطلق، وليس في تاريخ العرب اللغوي من ذلك بالتحقيق قبل القرآن ولا بعده غير القرآن.
تلك سياسة هذا القرآن: جمع العرب لمذهب الأقدار وتصاريف التاريخ, رأى ألسنتهم تقود أرواحهم، فقادهم من ألسنتهم وبذلك نزل منهم منزلة الفطرة الغالبة التي تستبد بالتكوين العقلي في كل أمة, فتجعل الأمة كأنما تحمل من هذا العقل مفتاح الباب الذي تلج منه إلى مستقبلها؛ فإن كل أمة تستفيد عقلها الحاضر من ماضيها، لتفيد مستقبلها من هذا العقل بعينه، فلما استقاموا له أقامهم على طريق التاريخ التي مرت فيها الأمم، وطرحت عليها نقائصها فكانت غبارها، وأقامت فضائلها فكانت آثارها؛ فجعلوا يبنون عند كل مرحلة على أنقاض دولة دولة، ويرفعون على أطلال كل مذلة صولة، ويخيطون جوانب العالم الممزق بإبر من الأسنة، وراءها خيوط من الأعنة؛ حتى أصبح تاريخ الأرض عربيا، وصار بعد الذلة والمسكنة أبيا، واستوسق لهم من الأمر ما لم ترو الأيام مثل خبره لغير هؤلاء