اللغة وبين العلوم التي أفرغت عليها من بعد؛ لأن لغة من اللغات لا تحيا ولا تموت إلا بحسب اتصالها بمادة العلم الذي به حياة أهلها وموتهم، وهي لا يلبسها العلم إلا إذا كانت قشيبة محكمة، لا تضيق عن أنواعه وفروعه ولا يخلقها الاستعمال.
وإنما شباب هذه الحياة اللغوية أن تكون اللغة لينة شديدة كما يكون كمال الإنسان بقوة الخلق والخلق: وهذا وجه لو لم يقمها عليه القرآن لما استقامت أبدًا، ولا وقفت على طريقه، ولا تلاقى فيه آخرها بأولها، لما أومأنا إليه, وسنزيد هذا المعنى بيانًا إن شاء الله.
ويبقى وجه آخر من تأثير القرآن في اللغة، وهو إقامة أدائها على الوجه الذي نطقوا به، وتيسير ذلك لأهلها في كل عصر، وإن ضعفت الأصول واضطربت الفروع، بحيث لولا هذا الكتاب الكريم لما وجد على الأرض أسود ولا أحمر يعرف اليوم ولا قبل اليوم كيف كانت تنطق العرب بألسنتها وكيف تقيم أحرفها وتحقق مخارجها.
وهذا أمر يكون في ذهابه ذهاب البيان العربي جملته أو عامته؛ لأن مبناه على أجراس الحروف واتساقها، ومداره على الوجه الذي تؤدى به الألفاظ، وأنت قد ترى الضعفاء الذين لا يحكمون منطقهم وما يصنعون بالأساليب المدمجة والفقر المتوثقة إذا هم تعاطوها فنطقوا بها، حتى ليصير معهم أجود الكلام في جزالته وقوة أسره وصلابة معجمه إلى الفسولة والضعف، وإلى البرد والغثاثة، كأنما يموت في ألسنتهم موتًا لا رحمة فيه.
لا جرم أن اللغة التي يذهب منها ذلك لا ينطق بها إلا على الحكاية السقيمة، ولا جرم أن بعض السقم يدفع إلى بعضه، وأن جملة ذلك تفضي إلى الموت.
فهذه معان سامية غريبة انفردت بها العربية، ولولا القرآن ما كانت فيها وما ينبغي لها بكلام غيره؛ إذ ليس في غيره ما يبلغ أن يكون حدا للكمال اللغوي في الفطرة، فيتعلق بمثل أثره في العرب وأحوالهم وتاريخهم، أو يقع من ذلك على مقدار مقسوم، أو يكون له فيه حق معلوم.