للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفطري الكامل الذي تقاس إليه القدرة والعجز في ذلك قياسًا لا يلتاث١ ولا يختلف، ولا يحط من صنف حقه أن يزاد فيه، ولا يزيد في صنف حقه أن يحط منه.

ومن أعضل الأمور وأشدها التباسًا أن يكون امرؤ من الناس قادرًا على أن يقيس ببيانه، أو علمه بمذاهب البيان, قدرة أقوام وعجزهم في أمر معنوي كاللغة، متى كانت مذاهبهم إلى أنواع من الاختلاف في القدرة والعجز، وخاصة إذا كان أمر اللغة فيهم إلى السليقة والفطرة، فإن من ينتصب لذلك وإن أراد أن يسقط، وحاول أن لا يحول فهو لا بد مخطئ تعيين المراتب في المقدار الفاضل، وتعيين ما يقابلها في المقدار المفضول، ثم مخطئ في تمييل الحكم بين المقدارين، ولا يجيء من رأيه إلا بما تعرض فيه الخصومة أو تطول؛ لأن قياس مثل ذلك من الفطرة لا يتهيأ إلا بعمل يحتوي كل دقائقها وما يمكن أن تبلغ إليه من الكمال المطلق الذي هو الحد الأعلى في طبيعة تركيبها، ومثل هذا لا يكون ألبتة من إنسان ينزل على حكم هذه الفطرة نفسها؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه؛ ولأن قابل الكمال لا يكون في نفسه حدا للكمال، ومن أجل هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه أفصح ذي لسان وأبلغ ذي لب، لا يقاس كلامه بالقرآن، ولا يقع منه إلا كما يقع سائر الكلام، مع أنه بين كلام الناس الغاية التي ليس بعدها ما يقال فيه إنه بعدها، كما ستقف عليه في موضعه.

فيلزم من ذلك أن يكون القياس الذي أشرنا إليه أمرًا فوق الطبيعة وليس فوقها إلا أمر الله، وهو القائل عز وجل: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .

وينبغي لك أن تطيل النظر في قوله تعالى: {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} وتقف على موقع هذا الفصل من الآية، وتتأمل لفظة "العوج" فضل تأمل، فإنك لا تثير دفائنها البيانية إلا إذا حملتها على ما ذهبنا إليه, فتراها تصف القرآن بأنه فطرة هذه الفطرة العربية نفسها, وإنها لكلمة من الوصف الإلهي ترجع في موقعها بالكلام الإنساني كله.

فقد وضح لك أنه لولا القرآن وأسراره البيانية ما اجتمع العرب على لغته، ولو لم يجتمعوا لتبدلت لغاتهم بالاختلاط الذي وقع ولم يكن منه بد، حتى تنتقض الفطرة وتختبل الطباع، ثم يكون مصير هذه اللغات إلى العفاء لا محالة، إذ لا يخلفهم عليها إلا من هو أشد منهم اختلاطًا وأكثر فسادًا، وهكذا يتسلسل الأمر حتى تستبهم العربية فلا تبين -وهي أفصح اللغات- إلا بضرب من إشارة الآثار، وتنزل منزلة هذا "الهيرغليف" الذي قبره المصريون في الأحجار وأحيته هذه الأحجار.

وذلك معنى من أبين معاني الإعجاز، إذ لا تجده اتفق في لغة من لغات الأرض غير العربية، وهو لم يتفق لها إلا بالقرآن، ولقد كان أسلوبه البياني الذي جمع له العرب هو الذي اقتضى ما أحدثه العلماء بعد ذلك من تتبع اللغات وتدوينها ورواية شواهدها، والتحمل لها؛ فكان صنيعهم صلة بين


١ أي: يلتبس ويختلط.

<<  <  ج: ص:  >  >>