للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الاجتماعية التي هرمت وهي مع ذلك تتصابى، وعلمت وهي على ذلك تتغابى، قلنا: لو أن أولئك النفر أرادوا مخاطبة هذه الأمة على أن يتخولوها بالموعظة، لما أصابوا في غرضهم أسد ولا أحكم ولا أبلغ من تلك الآيات، يعرضونها على القوم فيبصرونهم صورة مجموعهم في مرآتها، ويعرفونهم مبلغ سيئاتهم من حسناتها؛ وينفضون إليهم جملة الحال في شبه الإيجاز النظري من كلماتها١ فلو أن ذلك واقع ثم أثرت عن القوم هذه الموعظة ورواها التاريخ بعد الأمد المتطاول، لما استطاع امرؤ ذو علم بالتاريخ وفلسفته أن ينكر أن المراد به الأمة الفرنسية بعينها في القرن العشرين بعينه، وانظر أين ما بدأت مما انتهيت؟

وما دام ذلك قد تحقق في المعاني، وكانت هي سبيلًا إلى الاستدلال عليه، فالاستدلال بالألفاظ ومسابقتها لتلك المعاني في الدقيق والجليل أيسر وأسهل.

فلا مذهب لمن يفهم الكتاب الكريم، ويقف على دفائن الحكمة فيه إلا أن يدفع به المذهب إلى إحدى اثنتين: إما أن يعتقد أنه أنزله الذي يعلم الغيب في السموات والأرض، فجاء كما يراه: أمرًا من أمر الله، وإما أن ينكر هذا ويعتقد أن القرآن الذي بعث به النبي الأمي في أولئك الأميين إنما وضع في زمن كانت فيه الأمة العربية غير نفسها، وكانت بالغة ما شاء الله من علم وجهل، وحضارة وبداوة، وصلاح وفساد؛ إذ يجد ما يصف كل ذلك على حقيقته الصريحة في القرآن٢. وأيهما أنكر وأيهما أقر، فإنه سبيل الحجة إليه ينحوها، وهو يظن أنه يمحوها, ويكشفها، ويحسب أنه يكسفها {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} .

ومن المعلوم بالضرورة أن القرآن قد جمع أولئك العرب على لغة واحدة، بما استجمع فيها من محاسن هذه الفطرة اللغوية التي جعلت أهل لكل لسان يأخذون بها ولا يجدون لهم عنها مرغبًا، إذ يرونها كمالًا لما في أنفسهم من أصول تلك الفطرة البيانية، مما وقفوا على حد الرغبة فيه من مذاهبها دون أن يقفوا على سبيل القدرة عليه. ومن شأن الكمال المطلوب إذا هو اتفق في شيء من الأشياء -كهذا الكمال البياني في القرآن- أن يجمع عليه طالبيه مهما فرقت بينهم الأسباب المتباينة، والصفات المتعادية؛ ولولا ذلك ما سهل أن تنقاد الجماعات في أصل تكوينها منذ البدء انقيادًا يكون عنه هذا الأثر الوراثي في طاعة الأمم لشرائعها؛ ثم لملوكها وأمرائها، مع ما تسام الأمة لذلك في باب من أبواب الإمرة والحكم والتسلط، كما أن من شأن النقص إذا تمثل في شيء أن يزيد في تفريق من يفترقون عنه إذا توهموه، حتى تتسع بينه وبينهم الغاية.

وقد كان العرب على حال يتوهم فيها كل قبيل منهم أنه أسلم فطرة في اللغة وأبين مذهبًا في البيان؛ لأنهم لا يجدون من ذلك إلا أمثلة ترجع إلى الفطرة وتختلف باختلافها، ولا يجدون المثال


١ المراد بالإيجاز النظري: استيعاب العين للحقيقة كلها في لحظة واحدة وهو إيجاز الحقائق الحسية.
٢ كتبنا هذا سنة ١٩١٤ للميلاد ثم جاء "طه حسين" أستاذ الأدب في الجامعة المصرية فأخذ به في كتابه "في الشعر الجاهلي" الذي أخرجه سنة ١٩٢٦ واستدل بالقرآن على أن العرب كانوا أمة سياسة وحضارة إلخ.... وهو من جهله وإلحاده، فانظر ردنا عليه في كتابنا "تحت راية القرآن".

<<  <  ج: ص:  >  >>