جرى المتأخرون على أن يصفوا الشاعر المحسن إحسانًا عاليًا بالنابغ والنابغة في المبالغة، ويطلقون هذا الوصف إطلاقًا عاما غير ملتفتين إلى أصل الكلمة ووجه اشتقاقها، ولا إلى استعمال العرب إياها، وإن كان ذلك يطابق ما ذهبوا إليه بعض المطابقة، ولكنا رأينا الاستعمال العلمي الحديث "السيكوفسيولوجيا" والاستعمال اللغوي القديم، يضعفان هذه الكلمة في جنب القوة التي يحركونها لها كما سنبينه فيما يلي:
لم يكن النبوغ عند العرب لقبًا عاما كما توهموا، ولكنه كان خاصا بالشعراء الذين يقولون الشعر ويجيدونه ولم يكونوا في إرث الشعر، ومن أجل ذلك لم يلقبوا بالنابغة إلا ثمانية من الشعراء ذكرهم بأسمائهم جميعًا الزبيدي في "تاج العروس" في شرح مادة -نبغ- وهم: زياد بن معاوية الذبياني، وقيس بن عبد الله الجعدي، وعبد الله بن المخارق الشيباني، ويزيد بن أبان الحارثي المعروف بنابغة بني الديان، والنابغة ابن لأي الغنوي، والحارث بن كعب اليربوعي، والحارث بن عدوان التغلبي، والنابغة العدواني ولم يسموه.
وعلى السبب في تلقيب هؤلاء بالنوابغ بنى اللغويون تعريف النبوغ في الشعر كما مر، فيظهر من ذلك أنه تعريف خاص مقيد بسبب معروف فلا يطلق إلا مجازًا، أما الألقاب العامة عند العرب فقد ذكرها الجاحظ في "البيان"، قال: والشعراء عندهم أربع طبقات: فأوليهم الفحل الخنذيذ، والخنذيذ هو التام، ودون الفحل الخنذيذ، الشاعر المفلق، ودون ذلك الشاعر فقط، والرابع الشعرور "البيان والتبيين، ج١" فالخنذيذ هو الذي يجمع إلى جودة شعره رواية الجيد من شعر غيره, وسئل رؤبة عن الفحولة قال: هم الرواة، والمفلئق الذي لا راوية له إلا أنه مجود كالأول في شعره [وقالوا في سبب هذه التسمية إنه يأتي في شعره بالفلق وهو العجب، وقيل الفلق الداهية" والشاعر فقط الذي يكون فوق الرديء بدرجة، أما الشعرور فهو لا شيء. قال الجاحظ: وسمعت بعض العلماء يقول: طبقات الشعراء ثلاثة: شاعر، وشويعر؛ وشعرور. وأول من سمي بالشويعر امرؤ القيس؛ سمي به محمد بن حمران بن أبي حمران، وقد سمي بعده بذلك نفر، منهم المفوف شاعر بني حميس، وصفوان بن عبد ياليل من بني سعد إلا أنهم إنما ينبذون بذلك في الهجاء وعلى وجه النقيصة؛ وقبل هذه الألقاب كان عندهم لقب بسيط لا يدل على أكثر من هيئة النظم، وبهذه البساطة استدللنا على أنه أقدم من الألقاب المذكورة آنفًا؛ ذكر صاحب "المخصص" "ج٢ ص١١٥" قال أبو زيد: العرب تقول: خطيب مصقع وشاعر مرقع، فالمصقع: الذي يأخذ في كل صقع من الكلام أي: ناحية منه؛ والمرقع: الذي يصل الكلام بعضه ببعض يرقع ما انخرق منه، وبهذا قيل: للشعر نظام، لاتصاله واتساقه، فكأن هذا اللقب نشأ عندهم في أوائل العهد بإطالة الشعر ومجاوزة البيتين والثلاثة؛ لأن مد البيتين مثلًا إلى أن يبلغا أبياتًا هو حقيقة ذلك الوصل الذي وضعوا هذه الكلمة لتعريفه.