[المواضعة على الألفاظ]
إذا تدبرت ما تقدم ورأيت القول بأن اللغة وحي وتوقيف إنما هو من باب التقوى التاريخية لا أكثر؛ لأن الإنسان خلق مستعدا منفردًا ليصير بعد ذلك عالمًا مجتمعًا، وليجري في كماله المقسوم له على سنة الله التي لم تتبدل ولن تجد لها تبديلًا؛ وهذه السنة هي أن المتغير لا يوجد كاملًا، بل لا بد له من نشأة يمر في أدوارها حتى يتحقق معنى التغيير فيه؛ ولعل أصل هذا المذهب كان مبالغة في تصور الاستعداد الإنساني؛ لأنه إلهام لا مرية فيه لذلك ترى أهله منقسمين: فمنهم من يقول بأن الإنسان ألهم أصول المواضعة، ومنهم من يقول بأنه ألهم اللغة نفسها.
والحقيقة أن الإنسان ملهم بفطرته أصول الحياة، وليست اللغة بأكثر من أن تكون بعض أدواتها التي تعين عليها؛ ولذا تراها في كل أمة على مقدار ما تبلغ من الحياة الاجتماعية قوة وضعفًا، وإذا كان من أصول الحياة: الاجتماع، فمن أصول الاجتماع: اللغة، وهذه من أصولها المواضعة.
وأقرب ما يصح في الظن مما لا يبعد أن يكون الوجه المتقبل -وإن كان الظن لا يغني من الحق شيئًا- أن الأصوات الحيوانية هي المثال المحتذى في لغة الإنسان؛ لأنها محيطة به تتقلب على سمعه كلما سمع، خصوصًا والإنسان في أول اجتماعه مضطر لمغالبة الحيوان، فهو بهذا الاضطرار يتدبر اختلاف هيئات الصوت الواحد ومعاني ما فيه من النبر، ودليله في ذلك أفعال الحيوان الذي تؤدي معاني هذا الاختلاف، من نحو الغضب والألم والذعر وغيرها.
ومن هنا يتعين أن تكون أوائل الألفاظ التي نطق بها الإنسان وأدارها على معان متنوعة، هي ألفاظ الإحسان وما يصرح به على الوجدان، على الصور البسيطة التي لا يزال أكثرها ميراثًا في الجنس كله على تباين اللغات وهي التي تشبه في تركيبها مقاطع الصوت الحيواني؛ إذ يكثر فيها الحرف الهاوي الذي هو أخف الحروف، بل هو الصوت الطبيعي في الحياة، وهو حرف اللين بأنواعه: الألف، والواو، والياء؛ وما عدا هذا الحرف فقلما يكون فيها، إلا أحرف الحلق: كالعين والغين والهاء والحاء؛ لأنها قريبة من الحنجرة، وذلك في الإنسان نحو: آه، وأخ، وأمثالهما من المقاطع الصوتية التي لا يزال يعبر بها عن أنواع من الإحساس إلى اليوم.
ولما أدرك الإنسان حقيقة هذا الاستعمال وتقلب فيه واصطلحت عليه الجماعات منه، وفتق له استعداده للإلهام أن يتأمل في الأصوات الطبيعية الأخرى، ومن قصف الرعد، وانقضاض الصواعق، وخرير الماء، وهزيز الريح، وحفيف الشجر، واصطكاك الأجسام، وما إليها من أصوات هذه اللغة الجامدة وهي ربما تبلغ المائة عدا، فقلدها واهتدى بها إلى مخارج حروف أخرى غير التي تتهيأ في الأصوات الحيوانية، فدار بها لسانه، وابتدأ يجمع بينها على طريق المحكاة، دالا بالصوت على محدثه. ولا يزال ذلك طبيعة في لغة الأطفال، فهم يسمون الدجاجة: كاكا، والشاة: ماما، والسنور: نو.. نو؛ وذكر الجاحظ في "الحيوان": أن طفلًا سئل عن اسم أبيه فقال: وَوْ.... وَوْ، وكان أبوه يسمى كلبًا!
وهذه الحالة كانت بدء اختراع اللغة، أي: حين كانت حاجات الاجتماع قليلة لا تتجاوز الإشارة إلى أمهات المعاني الطبيعية بالمقاطع الثنائية، كانهمال اللمطر، وانفلاق الحجر، وانكسار الشجر، وأمثالها؛ فلما بدأ الاجتماع يرتقي بنسبة أحوال الإنسان يومئذ، بدأ الاختراع الحقيقي في اللغة؛ وأمثل ما يظن في ذلك أن الإنسان جعل يقلب المقاطع الثنائية التي عرفها على كل الوجوه التي تحدثها آلات الصوت، فلما استتم صورها ارتجل المقاطع الثلاثية، فدارت بها الحروف دورة جديدة، وفشت ألفاظ أخرى غير التي عهده، وكان ذلك ابتداء تسلسل اللغة، فتواضعوا على اعتبار المقطع الثنائي أصلًا في مدلوله: كقط مثلًا، حكاية صوت القطع، ثم جعلوا كل صورة تتحصل من زيادة حرف عليه فرعا من هذه الدلالة، ثم استفاضوا في الاستعمال على هذا التركيب بالقلب والإبدال؛ وبذلك اهتدى الإنسان إلى سر الوضع.
لا جرم أن هذا أبين وجوه الطريقة التي يمكن أن توحي بها الفطرة في تاريخ المواضعة على اللغات، وهي السنة التي لا تزال تجري عليها أحكام الخلق في كل ما يتكون وينشأ، ثم هي متحققة بما يقطع الريب في هذا الخلق السوي الذي يعقل ويفكر، وهو الإنسان معجزة المخلوقات الذي يتكون جنينًا كسائر الأجنة الحيوانية لا فرق بينه وبينها في التركيب.
ولكن هذا الذي أتى على اللغة إنما تم في دهور متطاولة، وعلى طريقة وراثية بطيئة؛ لأن جماعات الإنسان يومئذ لم تكن "أكاديميات" أو مجالس علماء يبت فيها الرأس وتقطع الكلمة، ولكنها كانت طبيعية، وأعمال الطبيعة لا حساب لها في عرف الإنسان {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} .
ومما نستوفي به "الفائدة الظنية" في هذا الفصل، أن علماء طبقات الأرض حققوا بعد ما عانوه من البحث وما تهيأ لهم من أنواع الاكتشاف أن الحيوانات التي كانت تكتنف الإنسان في أول نشأته