للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مصرع العربية في الأندلس]

[مدخل]

...

[مصرع العربية في الأندلس]

من قواعد الاجتماع أن الأفراد يموتون ولكن الأمة تبقى، فكأنهم بموتهم يفسحون مكانًا للسمو الذي يكون مظهره تجدد الحوادث وتبدل العقول، ولكن ذلك شأن الأمة حين تكون أمة بالمعنى الاجتماعي أيضًا، فتكون بمنجاة من أسباب الانقراض، بعيدة عن عفونة التاريخ القديم وجراثيمه التي تهب بها الفتن والنكبات؛ وما أصيبت أمة بها إلا اضطربت أحوالها الاجتماعية وعن أجزائها الخلل والفساد، فلا تزال تتقلب حتى تصيب مصرع الخبب، وتعرف العقوبة من قبل أن تعرف الذنب!.

وكذلك كان شأن الأندلسيين: أخذتهم الفتن الأخيرة حتى كاد الفرد منهم يموت فيموت به جزء من الأمة، حتى صاروا في آخرة أمرهم نسلا شاذا وحثالة رديئة، فلفظتهم تلك الأرض كما يلفظ القيء، وذهبوا بعد ذلك كما يذهب كل شيء.

ونحن نريد الآن أن نبين كيف صرعت العربية بعد أن صارعت طويلًا، فنأتي على تاريخها في تلك البلاد في الطفولة والكهولة؛ لأننا لم نذكر في كل ما سبق إلا ظاهرًا من حياتها، وبقي تشريح باطنها لتعرف الأسباب والعلل في الحياة والموت:

دخلت العربية الأندلس، وكانت هذه البلاد يومئذ زاهرة بآداب اللغة اللاتينية التي كان يقوم عليها رجال الدين، حتى كانت أشبيلية يومئذ مركزًا علميا ثابت الدعائم بعناية أسقفها القديس إيزيدورس، فصدمتها العربية صدمة فزع لها أولئك الأساقفة؛ فكانوا يعملون على تقوية مادتها والاحتفاظ بها، فصارت بغيرتهم كأنها من الدين، حتى أصبحت البيع والأديار مدارس تلك الآداب، ولا سيما طليطلة وقرطبة وأشبيلية؛ فكانت تدرس فيها الآداب اللاتينية مع علم اللاهوت.

غير أن ذلك كله إنما كان عمل أفراد لا عمل أمة؛ وقد غفل أولئك المتنطعون عن هذه الحقيقة، وتناسوا ما كانت تغلي به قلوب الشعب الإسباني من النقمة على حكومته والخروج عليها؛ وقد كان اليهود يومئذ -وهم خزائن الذهب وأقطاب التجارة- في أشد الظمأ إلى بريق سيوف العرب، حيث كان الملك ورجال الدين الكاثوليكي يسومونهم سوء العذاب ويبلونهم بالعنت الشديد، إذ خشوا امتداد سلطانهم وشوكة أموالهم، خصوصًا بعد أن دبر الإسرائيليون مكيدة ظاهرهم عليها قبائل البربر واليهود من أهل أفريقية، فكادوا بها يضبطون زمام المملكة الإسبانية، وذلك قبل فتح طارق بسبع عشرة سنة "٦٩٤ للميلاد". غير أن أمرهم انكشف وانكشفت معه رقابهم للسيوف، حتى كادوا ينقرضون، لو لم يستخلصوا أرواح بقيتهم بسيوف العرب؛ ولذلك مالئوهم واطمأنوا إليهم ونصبوا أنفسهم لحماية المدن التي يفتحها الغزاة؛ وكذلك شأن العبيد في النقمة على الإسبانيين، حتى إن قرطبة سلمها للعرب راهب منهم، وقد غمسوا أيديهم في دماء وفتن كثيرة، فكان كل ذلك مما حملهم على تلقف العربية وبثها في سواد الأمة وتهيئتهم للاستعراب.

ولما رأى المسيحيون الأحرار أناة العرب وتسامح الإسلام، وأن أعناقهم لا تحملها الأكتاف إلا

<<  <  ج: ص:  >  >>