للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشعر العلمي *:

قد علمت أن الشعر كان مستودع علوم العرب وكتاب تجاربهم وحكمهم، فليس هذا الذي نريده بالشعر العلمي، ولكنا نريد القصائد التاريخية أو العلمية التي جاءت في حكم الكتب، وكذلك الكتب التي نظموها فجاءت في حكم القصائد، وهو ما يعبر عنه المتأخرون بالمتون المنظومة، كألفية ابن مالك وغيرها مما يجمع مسائل الفنون وضوابطها، وليس من عالم في هؤلاء إلا وله شيء قل أو كثر نصيبًا مفروضًا.

ونحن نريد أن نتكلم هنا عن أصل هذا النوع وأقدم ما وقفنا عليه من أمثلته التي احتذاها المتأخرون، وهم مجمعون على استعمال هذا النمط من الرجز الذي يستقل فيه كل مصراعين بقافية، حتى لقبوه بحمار الشعر لسهولة الحمل عليه، ثم هم مع ذلك التهافت لا تكاد تجد فيهم من يعرف اسمه عند المتقدمين؛ والعرب أنفسهم لم يضعوا له اسمًا لم يأت في مشهور أراجيزهم منه شيء، ولم نقف منه عندهم إلا على مثال واحد، وهو ما ذكره الخطيب التبريزي في شرحه على تهذيب الألفاظ "ص٣٣٢" من أن رجلًا من هذيل أقبل إلى عمر بن الخطاب وهو جالس فأنشده شعرًا يتجرم فيه على أبيه ويستظهره عليه، فبعث عمر إلى أبيه فدعاه، فقال: ماذا يقول ابنك؟ زعم أنك نفيته. فقال: يا أمير المؤمنين، غذوته صغيرًا وعقني كبيرًا، أنكحته الحرائر، وكفيته الجرائر، فأخذ بلحيتي وأظهر مشتمتي:

شاهد ذاك من هذيل أربعة ... مسافع وعمه ومشجعه

وسيد الحي جميعًا مالك ... ومالك محض العروق ناسك

وهذا الرجز كما تراه إنما انساق مع الكلام واستجر للحكاية، فإما أن يكون بعض ما يتفق من أحاديثهم العامة وأهملوا حفظه وروايته؛ لأنه في سبيلها، وإما أن يكون شيئًا جرى على لسان ذلك العربي؛ وعلى أي الوجهين فما كان ليروى لولا أنه جاء تابعًا للشعر الذي قبله؛ وفيه شاهد من شواهد اللغة فحفظوه ليساق مع الحديث.

ثم جاء بشر بن المعتمر الذي مر ذكره في الشعر الحكمي، وكان من أروى المعتزلة للشعر، فبنى على هذا الأصل أرجوزة طويلة ذكر فيها المل والنحل وضرب الأمثال وأخذ في قواعد مذهبه. ويظهر من كلام الجاحظ أن هذه الأرجوزة قد رفعت إلى الناس وذهب لها صيت، وقد ذكرها مرتين في كتاب "الحيوان" ونقل قطعة من أمثالها "ص٨٠ ج٤: الحيوان" وقطعة أخرى في ذكر فضل علي على الخوارج "ص١٥٥ ج٦" وهو في كل مرة يقول: قال بشر بن المعتمر في شعره المزاوج. وهذه التسمية أليق ما يسمى به هذا النوع من الأراجيز، ولا بد أن تكون هذه الأرجوزة الأولى من نوعها،


* قلت: كان الترتيب أن يكون قبل هذا الفصل مبحث عن "شعر الترقيص" ولكنا لم نعثر به.

<<  <  ج: ص:  >  >>