ومن أراد أن يقف على بعض خرافات الأعراب فعليه بقصيدة الحكم بن عمرو البهراني، وكان أتى بني العنبر بالبادية فنفوه إلى الحاضرة، فجعل يتفقه ويفتي فتيا الأعراب، وكان مكفوفًا دهريا، وقصيدته كلها ظريف غريب، وكلها باطل، والأعراب تؤمن بها أجمع، وقد رواها الجاحظ في "الحيوان""ص٢٤ ج٦" وشرحها شرحًا مطولًا.
وقد وقفنا على نوع غريب من الشعر القصصي كنا نظن أن العرب لم يقولوا فيه، وذلك محاورة الحيوان ومساءلته، في نظم قائم بنفسه وعلى نمط فات المتأخرين الذين عربوا مثل هذا الشعر عن اليونان والفرنسيين وغيرهم، فإنهم ينظمون ذلك شعرًا مزاوجًا من الرجز، يستقل كل بيت منه بقافيتين، ولكن هذا الشاعر أطلق القوافي في رجزه، فهو يغيرها عند انتقاله من معنى لمعنى مباين؛ ولا جرم أن الشعر القصصي لو نظم على هذا النحو لأمكن منه ما ظنه الأدباء غير ممكن، أما الأرجوزة فهي عن أبي زياد الكلابي، قال: أكلت الضبع شاة رجل من الأعراب، فجعل يخاطبها ويقول:
ما أنا يا جعار من خطابك ... علي دق العصل من أنيابك
"الأبيات ص١٥١ ج٦: الحيوان"
أما الأساطير الدينية فليس في العرب من يتعمل لنظمها غير أمية بن أبي الصلت، لما مر من شأنه في باب الشعر الحكمي، وله من ذلك أشياء مروية، كقصة سفينة نوح، وقصة الحمامة التي بعثها ترتاد في الأرض موضعًا يكون مرفأ للسفينة بعد أن بعث الغراب فوقع على جيفة ونحو ذلك؛ ومما نظم أمية من خرافات الأعراب خرافة الغراب والديك التي يقولون فيها إن الديك كان نديمًا للغراب، وإنهما شربا الخمر عند حمار ولم يعطياه شيئًا، وذهب الغراب ليأتيه بالثمن ورهن الديك، فخاس به ولم يرجع، ولذلك ذهب الغراب مطلقًا في الأرض وبقي الديك محبوسًا عند الناس؛ ولكن نظم أمية في هذه المعاني لا يرمي إلى شيء غير معنى القصص، كأنه لا يريد من الشعر إلا أن يكون دليلًا على علمه وترشحه للأمر الذي يحدث به نفسه كما سبق.
وقد نظم بعض المولدين في الشعر القصصي بما يقارب المعنى المصطلح عليه. من ذلك قصيدة محمد بن عبد العزيز السوسي من شعراء "اليتيمة"؛ قال الثعالبي فيه إنه أحد شياطين الأنس، يقول قصيدة تربي على أربعمائة بيت في وصف حاله وتنقله في الأديان والمذاهب والصناعات، وقد أورد منها قطعة "ص٢٣٧ ج٣: يتيمة الدهر" ونظم المتأخرون في السيرة النبوية خاصة، وأشهرهم في ذلك حكمة وإحكامًا، الإمام شرف الدين البوصيري، وشهرة قصيدتيه البردة والهمزية قد ملأت الدنيا.