ثم جعله حمامًا، والحمام أسرع الطير، ثم جعله كثيرًا؛ لأنه يكون أكثر اجتهادًا في السرعة إذا كثر عدده، وذلك أنه يشتد طيرانه عند المسابقة والمنافسة، ثم لم يرض بذلك حتى جاء بما يدعو إلى منتهى السرعة الممكنة فقال:
"يحفه جانبًا نيق ويتبعه"
، وذلك أن الحمام إذا كان في مضيق من الهواء كان أسرع منه إذا اتسع عليه الفضاء، فشدد الأمر وضيقه على الفتاة كما ترى، بما يقيم لها ألف عذر إن اخطأت في الحساب، ثم لم يكفه أن يذكر مع ذلك أنها أصابت، بل جعل إصابتها مثلًا في الفطنة، إذ عبرت في تلك الحالة عن تسع وتسعين بمجموع ونصفه أي: ٦٦ و٣٣ فهذه غاية البيان، وإذا لم تكن القصة من وضع النابغة وكانت صحيحة النسبة إلى زرقاء اليمامة، فلا شك عندنا في أن النابغة قصد منها هذا التصوير بعينه، لا عجب مع هذا أن يكون من أهل الصنعة والتنقيح. ولا يشترط أن تكون القصة في هذا النوع تاريخية، بل ربما وضعها الشاعر كقول بعضهم في صفة صائد يعنيه بقصة معيشته وحياته، والضمير في البيت الأول راجع للصيد:
أتيح له طلح أذاه بكفه ... خنوف وأشباه تخيرن من حجر
أبو صبية لا يستدر إذا شتا ... لقوحًا ولا عنزًا، وليس بذي وفر
له زوجة شمطاء يدرج حولها ... فطيم تناجيه، وآخر في الحجر
"الأبيات ص١٤٠ ج٤: الحيوان"
فقد بالغ في صفة هذا الصائد بالتوحش والقوة وحسن الإصابة، وذكر كل ما يدل على انفراده بالكدح، ليكون أقوى له وأبلغ في الاعتماد؛ إذ زوجته شمطاء، وأولاده فطيم وآخر في الحجر، ثم وصف انفراد قلبه كذلك بما شوه من عجوزه، حتى لا يكون فيه موضع للرقة على الحيوان، وليس يتعين أن يكون هذا الصائد كذلك، ولكن صفة الرمية النافذة اقتضت هذه القصة.
ثالثًا: إذا كانت القصة خرافة من الخرافات، فيضربونها مثلًا لتوكيد الحقيقة، وأكثر ما يكون ذلك في الخرافات الموضوعة على ألسنة الحيوان، وهي شائعة في الأعراب، ومثلها في كل أمة، ولها في أكثر الأمم شعراء يتفردون بها، وأشهرهم في المتأخرين لافونتين الشاعر الفرنسي، ومن هذا النوع قول النابغة في هذا المثل البديع:
أليس لنا مولى يحب سراحنا ... فيعذرنا من مرة المتناصره
"الأبيات في خرافة الحية وحليفها ص٦٨ ج٤: الحيوان، وص١١: حسن التوسل".
وقول الهذلي:
وإخال إن أخاكم رعنانة ... إذ جاءكم بتعطف وسكون
"الأبيات في خرافة النعامة التي ذهبت تطلب أذنين فعادت صلماء، ص١٠٧ ج٤: الحيوان".
وقوله ابن هرمة في خرافة الضب والضفدع:
ألم تأرق لضوء البر ... ق في أسحم لماح
"الأبيات ص٣٨ ج٦: الحيوان"