قد تتبعنا أشعارهم وتقصصناها في دواوينهم ودرسنا أكثر ما استخرجه العلماء، ومنها شواهد وأمثلة على الأخبار والعلوم، ثم اعتبرنا ذلك وتدبرناه فلم نرهم يقصون في شعرهم إلا في مواضع معدودة.
أولًا: إذا كانت القصة ترمي إلى خلق من الأخلاق، كالوفاء والغدر والحفيظة ونحوها، فتكون صبغًا من أصباغ الشعر يعطيه لونًا ثابتًا من ألوان الحفيظة التي يرمى الشاعر إلى تأييدها، ولا أثبت في ذلك من لون التاريخ؛ ومن هذا النوع قصص الحارث بن حلزة في طويلته. وقد يكون في القصة من هذا النوع مواضع تصلح أن تبنى عليها المعاني الكثيرة في الأخلاق فيتجاوزونها ويختصرون القصة بضرب من الإشارة إليها، ثقة بالفهم عنهم، كأنهم يريدون أن يجعلوا القصة كلها معنى واحدًا من معاني الشعر، كقول جابر بن حني التغلبي: "ص٤٢ ج٣: الحيوان".
ولسنا كأقوام قريب محلهم ... ولسنا كمن يرضيكم بالتملق
فسائل شرحبيلًا بنا ومحلما ... غداة نكر الخيل في كل خندق
لعمرك ما عمرو بن هند وقد دعا ... لتخدم ليلى أمه بموفق
فقام ابن كلثوم إلى السيف مغضبًا ... فأمسك من ندمانه بالمخنق
وعممه عمدًا على السيف ضربة ... بذي شطب صافي الحديدة مخفق
والقصة مشهورة وهي من مفاخر العرب*؛ فكأن جابرًا يقول: أنا وإياك فيما تريده من التملق كابن كلثوم فيما أراده عمرو بن هند، فجعل القصة معنى من معاني شعره واقتصر منها على ما يؤدي غرضه، فذكر الباغي والمبغي عليه وعاقبة البغي؛ وترك ما وراء ذلك للأسماء التي تنبه إليه الذاكرة.
ثانيًا: إذا كانت القصة ذريعة لجلاء صفة من الصفات التي يريدون تحقيقها، فإنها حينئذ تكون ضربًا من التمثيل الذي يقرب الحقيقة ويكشفها للعقل، كأبيات النابغة في بعض اعتذاره للنعمان "ص ٦٧ جد٣: الحيوان":
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمد
يحفه جانبا نيق ويتبعه ... مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا ونصفه فقد
فحسبوه فألفوه كما حسبت ... تسعًا وتسعين لم تنقص ولم تزد
فكملت مائة فيها حمامتها ... وأسرعت حسبة في ذلك العدد
فإن ظاهرها يؤدي معنى من القصص، ولكن باطنها يؤدي إلى غرض لا حيلة في إبرازه بغير هذا الوضع، فإنه أراد أن يصور للنعمان اضطراب أمره، وأن ذنبه مظنة الخطأ في الحكم لما فيه مما يثير الحمية ويهيج الكبرياء، ثم يستنزله إلى العفو والصفح والنظر فيما أتاه بالعقل لا بالقلب، وأن ذلك أحمد له وأليق بموضعه من الفضل والتمكن، فصور له هذه الفتاة تحزر طيرًا، والطير أخف من غيره،
* قلت: انظر الأغاني ج٩ ص١٧٦.