إذا كان الغرض من الشعر القصصي ما يجمع من التاريخ ويحفظ من الأخبار، فذلك موجود في أشعارهم، ولكنهم لم يطيلوها إطالة الإلياذة وغيرها؛ لأن ذلك يقتضي له عمل من النظم وضرب من التأليف المقصود لا يتم حسنه لا بالتنسيق وسياسة الألفاظ واستكراه المعاني واقتسارها، ثم إحكام اللحمة بين فصل وفصل بين قطعة وقطعة، ثم تحكيك الألفاظ وتصفية الأسلوب واستيفاء صنعة التأليف، ولا يكون ذلك جميعه إلا بالصبر والمطاولة ورصد الأوقات التي تكون أجم للنشاط وأصفى للخواطر؛ ولو أن في العرب من انقطع لهذا العمل لهجنوا صنيعه ورموه بالعي ولتركوه مثلًا وآية؛ لأن الشعر فيهم عند أسبابه التي ذكرناها فيما تقدم، وتأريخ البديهة والروية معروف أجمع عليه الرواة، ولم يسقط بعد طبقة المصنعين -كزهير والنابغة- شيء من الشعر، وهذا النوع لا يتفق على الارتجال أبدًا ولا بد فيه من الصنعة، فلو كان مما تدعو إليه الحاجة لقاله مثل زهير والنابغة، ولكنهم لم يقولوه بإجماع الرواة، فدل ذلك على أنه ليس من حاجة اجتماعهم.
ووجه آخر، وهو أن العرب لا يطيلون أشعارهم إلا في المواقف وفي أيام الحفل، كما فعل الحارث بن حلزة في طويلته، وهي أقرب دليل على الشعر القصصي ومنزلته وأسبابه عندهم، وسيأتي الكلام عن سببها في موضعه؛ ثم إن طبيعة لغتهم تأبى الإطالة إلى أكثر مما تبعث عليه حاجة المفاخرة والمقارعة؛ [لأن] البلاغة فيها مبنية على الحذف أو الإشارة والإيجاز والاكتفاء من المعنى باللمحة الدالة ومن القصة بالمثل المعروف، ثقة بفهم بعضهم عن بعض، ثم هم إنما يتفاخرون [على هذه السنة] وبهذه البلاغة، فلو أنهم ابتلوا بمفاخرة اليونان أو الرومان مثلًا لاحتالوا في نوع آخر من الشعر يبسطون فيه اللغة ويمدون معاني الخطاب؛ لأن مفاخرة القبيلة للقبيلة إنما تكون بمعاني من تاريخ الاثنتين، ولكن مفاخرة أمة لأمة لا تكون إلا بتاريخ كلتيهما دون بعض معانيه، كما فعل الشعوبية والعرب، ومن تدبر طرق الخطاب التي جاء بها القرآن وهو أبلغ ما يمكن أن تصل إليه العربية، وجده يوجز في مخاطبة العرب ويكتفي بأيسر إشارة وأدنى لمحة، فإذا خاطب اليهود بسط الكلام وفرع منه وكرر بعض المعاني بزيادة في بعضها عن بعض، فكذلك كان يفعل العرب.
وإذا كان الغرض من الشعر القصصي ما يحمله من الخرافات أو القصص الموضوعة، فهذا أيضًا قد نظم فيه العرب، ولكنهم لم يفردوه بالقصائد ولم يطيلوه إطالة بالغة، لذهاب معنى التقديس من عقائدهم وعاداتهم، فليس لهم آلهة ولا أنصاف آلهة ولا أساطير من هذا القبيل على نحو ما كان عند الهنود واليونان والرومان، وإنما كانوا يتناقلون من ذلك أشياء تناسب طبيعتهم ومذهبهم الاجتماعي، كالقصص الموضوعة على ألسنة الحيونات والجمادات وبعض الخرافات المادية، فهذه كلها نظموها في شعرهم على طريقة المثل كما فعل اليونان، لا على طريقة التاريخ كما سنبينه.
يخرج من ذلك أن الشعر القصصي -بالمعنى المصطلح عليه- لم يكن في طبيعة العرب ولا هو من مقتضيات اجتماعهم، فهم لم ينظموه في جاهليتهم قطعًا، ولم ينظمه من بعدهم لوقوفهم عند حد التقليد كما أشرنا إليه مرارًا فيما سبق، أما ما كان من ذلك عند الجاهليين والإسلاميين فنحن ذاكروه فيما يلي: