للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[فصل: إحكام السياسة المنطقية على طريقة البلاغة]

وبقي سر من أسرار هذه البلاغة المعجزة نختم به الباب، وهو شيء لا نراه يتفق إلا في القليل من كلام النوابغ المعدودين الذين يكون الواحد منهم تاريخ عصر من عصور أمته، أو يكون عصرًا من تاريخها، وهو إحكام السياسة المنطقية على طريقة البلاغة لا على طريقة المنطق١ فإن الفرق بين


١ رأينا لفيلسوف الإسلام القاضي أبي الوليد بن رشد المتوفى سنة ٥٩٥هـ كلامًا حسنًا في آخر كتابه "فصل المقال" لم نر مثله لأحد من العلماء، بين فيه كيف احتوى القرآن الكريم على طريق التعليم المنطقية بجملتها تصورًا وتصديقًا، وقد عد الفيلسوف ذلك من إعجازه، وهو وجه لو كان بسطه واستوفاه واستبرأ معانيه لجاء منه بكل عجيب، غير أنه -رحمه الله- أشار إليه في الكلام إشارة وجاء به عرضًا لا غرضًا ونحن نستوفي هذه الفائدة من كتابنا بتحصيل كلامه.
فقد دل على أن غاية الشرع تعليم العلم الحق والعمل الحق، وأن التعليم صنفان: تصور وتصديق. وطرق التصديق الموضوعة للناس ثلاثة: البرهانية، والجدلية، والخطابية، وللتصور طريقتان: إما الشيء نفسه، وإما مثاله. ولما كان الناس لا يستوون في طباعهم، ولا الطباع كلها سواء في قول البراهين والأقاويل الجدلية فضلًا عن البرهانية، وكانت غاية الشرع تعليم الناس جميعًا, وجب أن يكون مشتملًا على جميع أنحاء طرق التصديق وأنحاء طرق التصور، وطرق التصديق منها عامة لأكثر الناس، أي: في وقوع التصديق من قبلها، وهي الخطابية والجدلية -والأولى أعم من الثانية- ومنها خاص لأقل الناس وهي البرهانية، ولما كان الشرع قد جعل قصده الأول العناية بالأكثر من غير إغفال لتنبيه الخواص، كانت أكثر الطرق المصرح بها في الشريعة هي الطرق المشتركة للأكثر في وقوع التصور والتصديق.
وهذه الطرق هي أربعة أصناف: الأول لا يقبل التأويل، والثاني يقبل نتائج التأويل دون مقدماته، والثالث عكس هذا يتطرق في التأويل إلى مقدماته دون نتائجه، والرابع يتأوله الخواص وحدهم، أما الجمهور فأخذه على ظاهره.
فالناس إذن ثلاثة أصناف: صنف ليس من أهل التأويل أصلًا، وهم الخطابيون الذين هم الجمهور الغالب، وصنف وهو من أهل التأويل الجدلي، وهم الجدليون بالطبع فقط، أو بالطبع والعادة، وصنف هو من أهل التأويل اليقيني، وهم البرهانيون بالطبع والصناعة، أي: صناعة الحكمة والمنطق.
وليس الناس في طرق العمل كالطرق التي تثبت في الكتاب العزيز "القرآن" فإنه إذا تؤمل وجدت فيه الطرق الثلاث الموجودة في جميع الناس، والطرق المشتركة لتعليم أكثر الناس والخاصة، مما لا يوجد أفضل منه لتعليم الجمهور، ثم انتهى الفيلسوف الكبير من ذلك بعد بسطه وبيانه بما لا يحتمله هذا الموضع إلى أن الأقاويل الشرعية المصرع بها في الكتاب العزيز للجميع، لها ثلاث خواص دلت على الإعجاز إحداها أنه لا يوجد في "مذاهب الكلام" أتم إقناعًا وتصديقًا للجميع منها، والثانية أنها تقبل التصرف بطبعها إلى أن تنتهي إلى حد لا يقف على التأويل فيها -إن كانت مما فيه تأويل- إلا أهل البرهان، والثالثة أنها تتضمن التنبيه لأهل الحق على التأويل الحق. ا. هـ.
قلنا: وليس في المنطق أعجب من أن يكون الكلام مبسوطًا للجميع، ثم هو نفسه مما يهدي الخاصة إلى تأويله، ثم لا يكون في طبيعته الكلامية مع تصرفه إلا أن ينتهي إلى مقطع الحق من هذا التأويل دون أن يتعداه، وقد=

<<  <  ج: ص:  >  >>