قالوا إن الاستعارة إنما هي من اتساعهم في الكلام اقتدارًا ودالة، وليس ضرورة؛ لأن ألفاظ العرب أكثر من معانيهم؛ وليس ذلك في لغة أحد من الأمم غيرهم، فهم إنما استعاروا مجازًا واتساعًا، ومرجع ذلك إلى شرح المعنى وفضل الإبانة عنه، أو تأكيده والمبالغة فيه أو الإشارة إليه بالقليل من اللفظ، أو بحسن المعرض الذي يبرز فيه، تبسطًا في اللغة، واسترسالًا في طرق التعبير، فعلى هذا تكاد تكون الاستعارة البيان كله، وليس من غرضنا أن نشرح أقسامها، أو نلم بما قالوه في تحقيقها، وإنما نتكلم عليها في شعر امرئ القيس خاصة، فهي التي ميزت شعره، وقلدت في جيد الزمان دره، وأكسبته شهرة أنه أول من أفلح في شق هذه الصدفة حتى زعم ابن وكيع "ص١٠٦ ج١: العمدة" أن أول استعارة وقعت في الكلام قوله:
ويل كموج البحر أخرى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازًا وناء بكلكل
وليس يخفى أن العربي الذي يجيء بالاستعارة المتمكنة إنما كان ينظر فيها ويديرها إدارة، بحيث لا تتفق اتفاقًا ولا تجيء عفوًا إلا في النادر، ولذلك قل الجيد منها في كلامهم حتى نزل القرآن، فتكون من هذه الجهة اختراعًا يدل على قوة غير قوة الفطرة، وهي في شعر امرئ القيس أكثر منها في المأثور من شعر غيره من الجاهلية، وأصفى ماء، وأعذب رواء، وحسب ذلك أن يكون دليلًا على تفضيله، وأشهر الاستعارات التي اتفقت له هذان البيتان.
فاستعار لليل سدولًا يرخيها، وصلبًا يتمطى به، وأعجازًا يردفها وكلكلا ينوء به. وقد تنازعهما الأدباء، حتى جريا مجرى المثل، وقلما تجد كتابًا في البيان خاليًا منهما، وقد ذكر الآمدي في "الموازنة" البيت الثاني، ورد عليه ابن سنان وجعله من الاستعارة المتوسطة، وفرق بينهما صاحب المثل السائر، ولكنه على كل حال بمنزلة من الحسن.
وسنخط في البيتين كلمة موجزة: أما الأول فإن تشبيه الليل بموج البحر تشبيه لا أحسن منه، لما يجيش فيه من الظنون ويتقلب من الخواطر، ثم هو مرمى البصر من سريرة الكون؛ فذلك شبه اتساع البحر وغوره بالنسبة لما يدرك النظر منه، غير أن قوله: أرخى سدوله، ذهب بذلك الحسن كله، إذ أفاد أن الغرض من التشبيه غرض محسوس، وهو أدنى أنواعه؛ لأن إرخاء السدول إنما يدل على السكون والحجاب، لا أكثر من ذلك، والكلمة استعارة لظلام الليل، فصارت لفظة الموج لا معنى لها إلا إقامة الوزن، وهي التي كانت عمود الحسن في التشبيه.