في شعره فقليل جيد، والحكمة فيه أقل وأكثر جودة، ومن عيونها قوله:
وإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف، ولم يغلبك مثل مغلب
وهو يخرج بعض ذلك مخارج نافرة، فلا يتناسب شعره في الجودة، ولا يطرد في سلامة اللفظ، ولا يتشابه في صحة المعنى، بل يجيء بالشريف والسخيف، والمبتذل والضعيف؛ حتى كأن شعره صور على اضطراب أخلاقه، ولا يعلل ذلك إلا بتفاوت الأحوال التي يقول فيها، وأنه لم يكن يقصد إلى الشعر قصدًا إلا في القليل الذي أجاده وبرع فيه، أما فيما عدا ذلك فقد منعته الثقة بنفسه أن يتتبع عليها ويقابل بين وجوه الكلام، وذلك بديهي: وإلا فلا معنى لأن يكون مرة نجمًا في السحاب ومرة حجرًا في التراب؛ والشاعر الذي يسف إنما يسقط في طبقات الهواء لا في طبقات التراب؛ ولذلك كان جيد امرئ القيس أجود شيء، ورديئه أردأ شيء.
وغزل هذا الشاعر ساقط كله؛ لأن استهتاره وتبذله معناه أن يتلطف في المعاني بما يستلزمه الإبداع في التعريض والكتابة، والاكتفاء باللمحة الدالة، فبردت حرارته بذلك التصريح، وثقل على القلوب إلا قليلًا مما يفتن فيه، فيجيء حسنه من صنعة المعنى لا من المعنى نفسه، كقوله:
أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل؟
فإنه نزع فيه إلى الحماسة، وهو بيت لو دار في كل أمة لوجد له في شعرها موضعًا؛ وكذلك قوله:
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالًا على حال
وهذا البيت من مخترعاته، فإنه أول من طرق هذا المعنى وابتكره، وسلم الشعراء إليه، قال صاحب "العمدة": وهو أول الناس اختراعًا وأكثرهم توليدًا "ص١٧٥ ج١: العمدة" فلا يبغي من شعره إلا الوصف. ومداره على الاستعارة والتشبيه، وسنأخذ بطرف من الكلام فيهما، ثم نفصل به إلى القول في معانيه ومبلغ انطباق ألفاظه عليها، لنتبين موقع نظره في مطارح الكلام، ومذهب فؤاده من أسرار الصناعة؛ ولا بد لنا هنا من التنبيه على أن الأدباء قد وضعوا أشعارًا من البديع ونحلوها امرأ القيس، يقصدون من ذلك إلى الغض من شأن الذين اخترعوا تلك الأنواع؛ حتى يوهموا أنهم سبقوا إليها؛ أو إقامة الشاهد على بعض ما يتباغضون فيه من مبتذل الشعر.
ومن النوع الأول ما أورده ابن رشيق "ص٥٥ ج٢: العمدة" بعد أن أورد بيتين لأبي نواس فقال: وأول من نطق بهذا المعنى امرؤ القيس:
لمن طلل دارس آية ... أضر به سالف الأحرس
تنكره العين من جانب ... ويعرفه شغف الأنفس
وليس فيما دونوه لامرئ القيس؛ والتوليد فيه بين.
ومن الثاني ما أورده ابن رشيق أيضًا "ص٢٥ ج٢: العمدة" عند الكلام على التقطيع والتقسيم من باب الترصيع، كقول المتنبي:
أقل أنل اقطع احمل عل سل أعد ... زد هش بش تفضل أدن سر صل
فإنه قال: وأصل هذا كله من قول امرئ القيس:
أفاد فجاد، وشاذ فزاد ... وقاد فذاد، وعاد فأفضل
ومهما تهافت امرؤ القيس فلا أراه يسقط على مثل هذا.