للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الاتساع في الرواية]

وهو سبب من أسباب الوضع، يقصد به فحول الرواة أن يتسعوا في روايتهم فيستأثروا بما لا يحسن غيرهم من أبوابها؛ ولذا يضعون على فحول الشعراء قصائد لم يقولوها، ويزيدون في قصائدهم التي تعرف لهم، ويدخلون من شعر الرجل في شعر غيره، هوى وتعنتًا؛ ورأس هذا الأمر حماد الراوية الكوفي المتوفى سنة ١٥٥هـ، وقد لقب بالراوية لهذا الاتساع. قال المفضل الضبي: سُلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدًا! فقيل له: وكيف ذلك، أيخطئ في روايته أم يلحن؟ قال: ليته كان ذلك؛ فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم؛ فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره، ويحمل ذلك عنه في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد؛ وأين ذلك١؟

وكان حماد أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها، فلا جرم أنه كان رأس الوضاعين لما يقتضى لصنعة الجمع الذي يراد به الاتساع والاستئثار من الزيادة في شعر المقل حتى يكثر، ونسبة ما يكون للخامل من الشعراء إلى المشهور حتى يروى شعره، ونحو ذلك.

وكان حماد يضع من الشعر ليقربه إلى بعض الأمراء زلفى، كالذي حدثوا به عن يونس، قال: قدم حماد البصرة على بلال بن أبي بردة، فقال: ما أطرفتني شيئًا! فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الحطيئة في مديح أبي موسى فقال: ويحك! يمدح الحطيئة أبا موسى ولا أعلم به، وأنا أروي شعر الحطيئة؟ ولكن دعها تذهب في الناس٢! وكان أبو موسى جد بلال! لأن أبا بردة ابنه.

وأخذ في مذهب حماد خلف الأحمر المتوفى سنة ١٨٠هـ، وهو أول من أحدث السماع بالبصرة فيما سمعه من حماد كما مر؛ وقد سلك في البصريين مذهب حماد في الكوفيين؛ غير أن أكثر ما وضعه من الشعر إنما خص به أهل الكوفة فرووه عنه؛ وكان خلف أفرس الناس ببيت شعر، وأعلمهم بمذهب الشعراء ومعانيها، وأبصرهم بوجوه الاختلاف بين ما يتميز به شاعر وشاعر؛ فإذا عمد إلى المحاكاة فيما يضعه أشبه كل شعر يقوله بشعر الذي يصنع عليه؛ حتى لا يتميز منه، وحتى لا يكون من الفرق بينهما إلا فرق التعدد الطبيعي الذي لا يدرك في الجوهر الواحد، كالفرق بين الروح والروح. وكان نفاذه في ذلك سريعًا بمقدار ما أوتي من سرعة البديهة ودقة الحسن البياني، حتى ضربوا به المثل؛ وهو في باب معاني الشعر ومذاهب الشعراء معلم أهل البصرة جميعًا. ولا يصدرون الرأي في شعر دونه، حتى إن مروان بن أبي حفصة لما مدح المهدي بشعره السائر الذي أوله:

طرقتك زائرة فحي خيالها


١ من ذلك أن حمادًا قدم على بلال بن أبي بردة بالبصرة وعنده ذو الرمة، فأنشده حماد شعرًا مدحه به فقال بلال لذي الرمة: كيف ترى هذا الشعر؟ قال: جيد وليس له! قال: فمن يقوله: قال: لا أدري إلا أنه لم يقله. فلما قضى بلال حوائج حماد وأجازه، قال له: إن لي إليك حاجة. قال: هي مقضية! فقال: أنت قلت ذلك الشعر؟ قال: لا، قال: فمن يقوله؟ قال: بعض شعراء الجاهلية، وهو شعر قديم وما يرويه غيري! قال: فمن أين علم ذو الرمة أنه ليس من قولك؟ قال: عرف كلام أهل الجاهلية من كلام أهل الإسلام.
٢ يريد أبا موسى الأشعري، والقصيدة مثبتة في ديوان الحطيئة، وهي أربعة عشر بيتًا، مطلعها:
هل تعرف الدار مذ عامين أو عام ... دار لهند بجزع الخرج فالدام
والبصير بالشعر ومذاهبه إذا قرأ شعر الحطيئة أخرج هذه القصيدة منه؛ لأنها تقليد ومقاربة، وإن كان المدائني قد صحح أنها للحطيئة في أبي موسى، ونفى أن يكون حماد نحلها الحطيئة تقربًا إلى بلال؛ فإن نفس الشاعر أصدق في نسبة كلامه من ألسنة الرواة.

<<  <  ج: ص:  >  >>