غريبًا؛ فكأنه يستعين على بيان غرضه بضرب من التخييل، كما يستعين الكاتب أو الشاعر بمثل من المجاز.
ولقد أفرط رواة الإسلام من أهل الأخبار في مزاعمهم عن الجن، ونسبوا إليها كل غريب وكل عظيم؛ لأنها مظنة كل ذلك في أوهامهم؛ وقفّى على آثارهم جماعة من المتصوفة، حين عينوا أول من أسلم من الجن؛ وهو بزعمهم "هامة بن الهام بن لاقيس بن إبليس" وأول نبي أرسل إلى الجبن فيما قالوا "عامر بن عمير بن الجان" فقتلوه وقتلوا بعده ٨٠٠ نبي!
والغرائب من هذا النمط كثيرة، وما نراها استفاضت في الإسلام إلا بعدما ذكره جهلة المفسرين وأهل القصص ممن تكلموا في تفسير ما ورد في القرآن الكريم من الإشارة إلى الجن، أو ما جاء من ذلك في الحديث الشريف أو ما يشبه ذلك١، ولا بد لكل كلام عندهم من شعر يستشهد به على ما عرفت، ولا أبلغ في ذلك ولا أدعى إلى الرضى من شعر الجن أنفسهم؛ وقد سبقهم إلى بعضه الأعراب؛ فلم يبق إلا أن ينفوا عنه تلك اللوثة الأعرابية، ويرققوا حواشيه ويلائموا بينه وبين ما هم بسبيله من العلوم القديمة التي ادعى غيرهم من أهل الكتاب أن بعضها إلهي نزل من السماء، وادعوا هم أن سائرها شيطاني خرج من الأرض.
على أن نادرة النوادر من ذلك، في التاريخ العربي كله، إنما هو ما جاء به أبو السري سهل بن أبي غالب الخزرجي الشاعر المفلق الذي كان في أواخر القرن الثاني، فإنه نشأ بسجستان، ثم ادعى رضاع الجن وأنه صار إليهم، ووضع كتابًا ذكر فيه أمر الجن وحكمتهم وأنسابهم وأشعارهم، وزعم أنه بايعهم للأمين بن هارون الرشيد بالعهد، فقربه الرشيد وابنه الأمين وزبيدة أم الأمين، وبلغ معهم وأفاد منهم؛ ثم جعل يتنفق عندهم بما يضعه من الشعر الجيد على ألسنة الجن والشياطين والسعالي، وقال له الرشيد: إن كنت رأيت ما ذكرت فقد رأيت عجبًا، وإن كنت ما رأيته فقد وضعت أدبًا!
ولكل ما أومأنا إليه في هذا الفصل أمثلة كثيرة من الشعر والخبر: أضربنا عنها خوف الإطالة بما لا طائل تحته، ولو كان فيها شيء غير إنسي لجئنا به ... أما ما يتعلق بزعمهم في شياطين الشعراء فقد أمسكنا الكلام عند إلى بابه، فإن له ثمة موضعًا.
١ من تفسير مقاتل بن سليمان في غزوة بدر وهي أفضل غزوات رسول الله صلى الله عيه وسلم: "أنه لم يجتمع جمع قط منذ كانت الدنيا أكثر من يوم بدر، وذلك أن إبليس جاء بنفسه وحضره الشياطين وحضره كفار الجن كلهم ... وتسعون من مؤمني الجن وألف من الملائكة" إلخ فتأمل.